يمكن القول إنه منذ عهد العثمانيين وحتى العام 2003، كانت الصحافة في العراق بمثابة لسان حال السلطات والحكومات المتعاقبة، ولم تكن حرّة مطلقاً، باستثناء أوقات معينة، تتبع السياق السياسي لمرحلة ما، لكن السيطرة على الصحافة، بلغت ذروتها في ظل نظام صدام حسين، حيث عملت السلطات آنذاك على ترويض الشارع وتوجيه رؤيته وسمعه، بل وحتى تحديد إيقاع يومه بإنهاء البث التلفزيوني الرسمي عند منتصف الليل كإشارة ضمنية إلى ضرورة التوجه للنوم.
ومع مرور السنوات، انقسمت الصحافة العراقية إلى ثلاثة أقسام رئيسية: صحافة النظام التي تعبر عن توجهاته، وصحافة الأحزاب الناطقة باسمها، وصحافة القطاع الخاص التي تحاول إيجاد مساحة لها في المشهد الإعلامي، إلا أن صحفيين يشخصون نقطة تحول جوهرية فيما بعد 2003، والتي برزت مع احتجاجات تشرين، حيث انقسم الصحفيون أنفسهم إلى "معارضين مناصرين لحراك الشارع، وصحفيين موالين للسلطة".
وبعد ذلك، ومع وصول حكومة محمد شياع السوداني، يصف صحفيون المرحلة الحالية بأنها "الأكثر تعقيداً بالنسبة لهم"، ففي تطور لافت ومثير للقلق، لجأت الحكومة إلى إغلاق منصات صحفية دون أوامر قضائية واضحة، وذلك لمجرد قيام هذه المنصات بنقل وقائع على الأرض، يبدو أن "الحكومة تخشى وصولها إلى الرأي العام"، بحسبهم.
التهنئات لا تخفي "مناخ الخوف"
وفي أيام مثل "اليوم العالمي لحرية الصحافة"، يتلقى الصحفيون في العراق تهنئات عديدة من المسؤولين. تقريباً، كلّهم يقولون إنهم داعمون لحرية الصحافة، لكنّ التهنئات تفسّر "ادعاءات" كثيرة في البلاد، كما يقول صحفيون، إذ أن الواقع يكشف عن معاناة مستمرة يواجهها معظم الصحفيين العراقيين الذين يريدون نقل الواقع كما هو، أو يعملون خارج الأطر التي تضعها السلطات في العراق.
وبالحديث عن التحديات التي يواجهها الصحفيون في البلاد، يؤكد الصحفي منتظر ناصر في تصريح لـ"الجبال"، أن "الصحافة المستقلة في العراق تواجه تحديات بنيوية أبرزها التحدي الأمني بسبب ضعف الدولة وانتشار السلاح، والبيئة التشريعية التي تتضمن قوانين تعود لحقب شمولية مع إحجام الكتل السياسية عن تعديلها أو تشريع قوانين جديدة مثل قانون حق الحصول على المعلومة، إضافة إلى التحديات المالية التي تحرمها من المنافسة في ظل غياب الدعم الحكومي والخاص".
وفي السؤال عن إمكانية وجود صحافة مستقلة، يرى ناصر أنه "في ظل التحديات الصعبة، فإن الهامش الضيق المتاح للصحافة المستقلة يعتبر إنجازاً وضرورة يجب الحفاظ عليها، كونها تساهم في تكوين صحفيين أحرار بغض النظر عن مكان عملهم".
ولم يتغير الحال في عهد حكومة محمد شياع السوداني بالنسبة للصحافة، فما زال العراق بكل حكوماته الاتحادية والمحلية، يرزح تحت درجة متدنية جداً في مؤشر حرية الصحافة، بحسب ناصر.
وعلى سبيل المثال، يشير ناصر إلى أن "التفاخر بعدم وجود سجناء رأي هو كذبة وضحك على الذقون"، مؤكداً على "وجود ضحايا للكلمة الحرة مثل هشام الهاشمي وأحمد عبد الصمد، بالإضافة إلى اللاجئين والمشردين والصمت القسري الذي يفرضه الخوف على الكثيرين".
ويؤكد ناصر على "استمرار تدهور الحريات الصحفية في العراق"، مشيراً إلى أن "مناخ الخوف يدفع العديد من الصحفيين إلى الصمت خشية التعرض لانتهاكات".
"ترويض الأغلبية" وأجواء البحث عن "إعانة حكومية"
انتقد الشاعر والكاتب حميد قاسم، الأوضاع التي آلت إليها البلاد والطبقة السياسية والصحافة العراقية بعد احتجاجات تشرين 2019، وفي تصريح لـ"الجبال"، أكد أن "الأغلبية تم ترويضها" وأن "من كانوا في جسد الاحتجاج قد تم استيعابهم بطريقة ما".
كما وصف قاسم حال الصحافة العراقية بعد عام 2019 بأنها "منزوعة المخالب والأسنان ومروضة تبحث عن إعلانات وإعانات من الحكومة"، مشيراً إلى أن "أصحابها غالباً يبحثون عن الوجاهة والمال"، معتبراً أن "هذا ليس غريباً في ظل سعي الجميع لينال من مال الدولة على هبة أو على شكل سرقة أو على مكرمة".
ولم يستثن قاسم "صحيفة الدولة" وشبكة الإعلام العراقي، مؤكداً أنها أصبحت "صحيفة الحكومة" وليست "شبكة الدولة" رغم تمويلها من المال العام، موضحاً أن "الحكومات المتعاقبة تعمد إلى تغيير رئيس للشبكة وتأتي برئيس جديد ويغيرون مجلس الأمناء بقرارات حكومية بعيدة عن رقابة البرلمان أو التصويت".
واختتم قاسم بالإشارة إلى ضعف توزيع الصحف العراقية، مؤكداً أن "كل الصحف التي نعتبرها بارزة لا تطبع أكثر من 500 نسخة، ما يعكس تراجع دورها وتأثيرها".
ويعكس هذا الانتقاد الحاد رؤية قاتمة للوضع السياسي والإعلامي في العراق بعد حراك شعبي سعى للتغيير، لكنه واجه تحديات كبيرة أدت إلى ما يراه قاسم "ترويضاً" و"إضعافاً" للمؤسسات التي كان من المفترض أن تعبر عن صوت الشعب وتراقبه السلطة.
ما بعد تشرين.. "فرز واضح" بين الصحفيين
يصف الصحفي محمد المحمودي احتجاجات تشرين بأنها كانت "لحظة فارقة على كل المستويات"، مؤكداً أنها شكلت "لحظة فرز حقيقية" في المشهد الصحفي العراقي.
وأوضح المحمودي لـ"الجبال"، أنه "قبل تشرين، كان هناك تصنيف غير معلن للصحفيين، حيث كان يُنظر إليهم بشكل ضمني على أنهم (أصدقاء السلطة) أو (أصدقاء الأطراف السياسية) أو حتى (أصدقاء السلاح)"، مشيراً إلى أن "هذا النوع من الصداقة يختلف".
لكنه لفت إلى وجود صحفيين كانوا "متحمسين لهذه القوة التي تدعمهم"، في "مقابل صحفيين آخرين لم يعملوا في هذه المؤسسات وكان لهم مواقف راسخة بشخصهم".
ويشير المحمودي إلى أن "ما بعد تشرين شهد فرزاً واضحاً، ومع مرور الوقت، وبعد انتباه القوى التقليدية وقوى السلاح وقوى السلطة إلى أهمية الإعلام والصحافة، تم تمأسس الهجوم أو مهاجمة القوى الإصلاحية سواء كانت علمانية أو ليبرالية أو مدنية، وتحول الأمر إلى ملف في كل المؤسسات الحزبية".
ونتيجة لذلك ـ وبحسب المحمودي ـ "صعد دور أهمية صناعة صحفيين وأصبح لدينا قائمة كاملة من التصنيف، حيث عاد الصحفيون ليصنفوا إلى مجموعة أسماء منهم أصدقاء السلطة ومنهم لا أصدقاء".
ويضيف المحمودي أن "مرحلة ما بعد تشرين أدخلت نمطاً جديداً تمثل في صعود المدونين بوصفهم صحفيين"، مشيراً إلى أن "هؤلاء هم في الحقيقة مدونون يتمتعون بنسبة وصول وتفاعلات عالية على وسائل التواصل الاجتماعي، لكنهم لم يعملوا في المؤسسات الصحفية التقليدية، ومع ذلك تم تسويقهم على أنهم صحفيون"، مبيناً أن "هؤلاء المدونين ذهبوا بنسبة كبيرة مع القوى التقليدية وقوى السلاح".
ويخلص المحمودي إلى أن النتيجة هي "مشهد فيه خرس تام، ويعاني من صمت رهيب، خاصة خلال الحكومة الأخيرة، حيث يبدو واضحاً من خلال متابعة الجميع حتى من لا يدعم فهو ساكت".
صحفيات عراقيات على طاولة التحديات أيضاً
وتسلّط الإعلامية جمانة ممتاز، الضوء، على أبرز المعاناة التي تواجه الصحفيات في العراق، مشيرة إلى "غياب الضوابط والمحددات المهنية الذي سمح لغير المختصين بدخول المجال وتشويه سمعة الإعلام والعاملين فيه".
وأكدت ممتاز لـ"الجبال"، على أن "مهمة الإعلام الأساسية هي صناعة الرأي العام، إلا أن تولي هذه المهمة من قبل أشخاص غير مؤهلين في بعض الأحيان يؤدي إلى التأثير السلبي على الرأي العام الوطني والصورة الرصينة التي يفترض أن تعكسها البلاد".
أما الصحفية زينب المشّاط، فترى أن "الصحفيات يواجهن قيوداً إضافية، حيث يتعرضن للابتزاز بشرفهن وسمعتهن عند التطرق لمواضيع معينة، بالإضافة إلى استهداف سمعتهن عبر ملفات وجيوش إلكترونية".
كما عبرت عن استيائها من وجود "إعلاميين وصحفيين وصحفيات دخلاء على المهنة شوهوا صورتها بسبب وسائل الإعلام غير المهنية والهابطة، مما يجعل الصحفي المحترف يشعر بالخجل في المشهد الإعلامي"، مشيرة إلى "غياب الضوابط والحقوق والواجبات التي تحكم العمل الصحفي".
وتطرّقت المشّاط إلى "معاناة الصحفيات من التحرش داخل المؤسسات الصحفية ومحاولات تشويه السمعة حتى من قبل رؤساء ومدراء هذه المؤسسات".
وفي ختام حديثها، أعربت المشّاط عن أملها في وجود "رقابة مهنية على العمل التلفزيوني والصحفي تدعم حرية الصحافة وتطورها مهنياً، وتفعيل قانون يحمي حرية الصحفيين وحرية التعبير وحياة الصحفي، بالإضافة إلى تفعيل قانون حق الوصول إلى المعلومة وإنشاء مؤسسات صحفية مهنية حقيقية تقتدي بالمعايير العالمية وتحقق نهجًا صحفيًا مستقلاً في العراق".
وبالوقت نفسه، تؤكد على “أهمية منح النساء فرصاً أكبر لتولي مناصب قيادية في غرف الأخبار بالقنوات العراقية الرصينة"، مشيرة إلى "وجود النساء في هذه المواقع يعكس قدراتهن على القيادة في مختلف مراحل العمل الصحفي، بدءاً من التفكير الاستراتيجي وجمع الأخبار، وصولًا إلى إعادة إنتاجها وتقديم تحليلات معمقة".
صحفيون عراقيون في "وجه المدفع"
ويواجه الصحفيون في العراق تحديات جمة تضعهم في "وجه المدفع"، حيث وثقت جمعية الدفاع عن حرية الصحافة ما يقارب 50 انتهاكاً بحقهم خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام 2025.
ويوضح رئيس جمعية الدفاع عن حرية الصحافة مصطفى ناصر، أن "الانتهاكات تنوعت بين المنع من التغطية، والاعتداء، والضرب، ومصادرة المعدات، والاعتقالات، والملاحقات القضائية التي وصفها بأنها تعود إلى نظام البعث السابق".
وأشار في حديث لـ"الجبال"، إلى "استمرار عمليات حظر بعض المواقع الخبرية وحجب أصحاب الصوت المعارض في وسائل التواصل الاجتماعي"، كما انتقد "تجاوز هيئة الإعلام والاتصالات لصلاحياتها من خلال منع ظهور العديد من الصحفيين والكتاب في وسائل الإعلام وفرض وصايات عليها".
وأكد ناصر على أن "الدستور العراقي كفل حرية العمل الصحفي بموجب المادة 38، إلا أن هيئة الإعلام والاتصالات تصرّ على تجاوز الدستور ومنح نفسها صلاحية فرض الوصايات على وسائل الإعلام".