منذ مطلع آب الماضي تحوّلت سماء مدينة العمارة ومناطق المشرح والكحلاء إلى ستار رمادي كثيف من الدخان يمتدّ حتى طريق منفذ الشيب الحدودي، ولم تكن هذه السحب العابرة مجرّد ظاهرة طبيعية، بل موجة متكرّرة من الدخان الكثيف الذي خفّض مدى الرؤية وأثار القلق بين الأهالي.
وفي صباح السادس من آب تحديداً سجّلت منصّات محلية ومواطنون مشاهد غير مسبوقة، حيث ملأت الغيوم السوداء سماء المحافظة بالكامل، لتغدو العمارة مدينة تغرق في ضبابٍ سامّ من مصدرٍ مجهول، وسط غياب التوضيحات رسمية مقنعة بحسب ناشطين.
يقول الناشط البيئي مرتضى عبد الخالق في تصريحٍ لمنصّة "الجبال"، إن "الأدخنة ما زالت مستمرة حتى الآن وتمتد لمسافة تصل إلى أكثر من 70 كيلومتراً، دون أن تُتخذ أي إجراءات واقعية لمعالجة الموقف".
وأضاف أن "الجهات الرقابية لم تقدّم تفسيراً مقنعاً حتى الآن، وكل ما نسمعه هو حديث عن الجفاف والاشتعال الذاتي، لكننا نرجّح أن تكون هذه الحرائق بفعل فاعل".
مصادر محلية تشير إلى أن "الدخان يتصاعد من الجهة الشرقية للمحافظة، تحديداً من مناطق محاذية لهور الحويزة، الذي تحوّل خلال السنوات الأخيرة إلى غابة من القصب الجاف هذا الواقع يجعل المنطقة شديدة القابلية للاشتعال، خاصة مع ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض مناسيب المياه".
وفي خضم الجدل الدائر حول موجات الدخان التي تغطي سماء ميسان بين الحين والآخر، قدّم مدير بيئة المحافظة باسم محمد توضيحاً جديداً، مؤكداً أن "ما تشهده مناطق الأهوار ليس حرائق مفتعلة كما يُشاع، بل انبعاثات ناتجة عن احتراق المواد العضوية داخل التربة الجافة".
وقال محمد في تصريحٍ لمنصة "الجبال"، إن "جفاف الأهوار هو السبب الرئيس لهذه الانبعاثات، فمع وجود القصب الجاف وقلة الرطوبة، تبدأ المواد العضوية بالاحتراق الذاتي في الأرض، خصوصاً مع ارتفاع درجات الحرارة في الصيف، ما يؤدي إلى تصاعد الدخان الكثيف الذي يراه المواطنون. هذه ليست حرائق سطحية، وإنما أدخنة ناتجة من باطن الأرض".
ولفت إلى أن "فرق البيئة في ميسان أجرت كشوفات ميدانية متواصلة في المناطق المتأثرة، وأرسلت مخاطبات رسمية إلى وزارة البيئة ووزارة الموارد المائية لتوضيح ما يدور ويحصل"، مبيناً أن "الظاهرة مرتبطة بشكل مباشر بشح المياه وجفاف الأهوار".
وأضاف محمد أن "هذه الأدخنة تُشكّل تاثيراً على صحة الإنسان في المحافظة خاصة في المناطق القريبة من مواقع الانبعاث"، لافتاً إلى أن "الحل الأمثل يكمن في زيادة الإطلاقات المائية نحو الأهوار، بما يضمن ترطيب التربة ومنع تكرار الظاهرة".
وقال الناشط البيئي أحمد الساعدي إن "مساحة الأهوار العراقية تمتد على مساحة طويلة تصل الى 20 ألف كيلومتر مربع، لتشكّل واحدة من أهم الأنظمة البيئية في الشرق الأوسط، وتمتد بين محافظتي ذي قار وميسان".
وأضاف الساعدي لـ"الجبال" أن "هذه المساحات الشاسعة تقلّصت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة بسبب عمليات التجفيف وقلة الإطلاقات المائية وانحسار الأمطار، حتى فقدت الأهوار معظم امتدادها الطبيعي الذي كان يوماً ما موطناً للحياة البرية والمائية".
وأشار إلى أن هور الحويزة وحده كان يغطي مساحة تتراوح بين 3000 الى 3500 كيلومتر مربع منها نحو 2500 كيلومتر مربع داخل الأراضي العراقية واليوم هذه المساحة جفت تماماً وتحولت إلى أرض قاحلة خالية من الحياة.
وفي تطور جديد، تقدّم المواطن منتظر محمد من محافظة ميسان بشكوى رسمية إلى المدعي العام، طالب فيها بفتح تحقيق عاجل حول تكرار موجات الدخان الكثيف التي تغطي سماء ناحية المشرح منذ أشهر، نتيجة حرائق القصب في هور الحويزة.
وبحسب وثيقة الإخبار التي اطلعت عليها "الجبال"، أوضح محمد أن سماء الناحية غمرها دخان كثيف صباح يوم الخميس الماضي، ناجم عن احتراق مساحات واسعة من القصب، في ظاهرةٍ قال إنها تتكرر منذ أكثر من خمسة أشهر دون تدخل فعّال من الجهات المختصة.
وأشار في بلاغه إلى أن "استمرار هذه الحرائق يشكّل خطراً مباشراً على صحة وسلامة الأهالي، لاسيما كبار السن والأطفال ومرضى الربو والحساسية، لما تسببه من تلوثٍ في الهواء ومضاعفاتٍ تنفسية متزايدة، إضافة إلى الأضرار البيئية التي تطال الكائنات الحية في المنطقة".
كما نبّه إلى أن ما يجري يُعدّ مخالفة صريحة لأحكام قانون حماية وتحسين البيئة رقم (27) لسنة 2009 الذي "يهدف الى حماية وتحسين البيئة من خلال ازالة ومعالجة الضرر الموجود فيها او الذي يطرأ عليها والخفاظ على الصحة العامة والموارد الطبيعية والتنوع الاحيائي والتراث الثقافي والطبيعي بالتعاون مع الحهات المختصة بما يضمن التنمية المستدامة وتحقيق التعاون الدولي والاقليمي في هذا المجال"، داعياً الجهات القضائية والرقابية إلى تحمّل مسؤولياتها القانونية والبيئية وإيقاف هذا العبث المتكرر.
من جهته، قال عضو مجلس محافظة ميسان حسين المرياني، إن "موجات الدخان التي تغطي سماء المحافظة بين الحين والآخر ناتجة عن الجفاف وارتفاع درجات الحرارة"، مؤكداً أن "ما يحدث هو ظاهرة طبيعية تحدث عند اشتداد الحرّ وجفاف القصب والمواد العضوية في الأهوار".
وأوضح المرياني في تصريحٍ لمنصة "الجبال" أن "الأدخنة تتصاعد من الأراضي الجافة من دون أي فعل فاعل، وغالباً ما تزداد حدتها خلال فترات الرياح الشرقية التي تساعد على انتشارها في سماء المدينة والمناطق المجاورة".
وأضاف أن "المساحات الجافة اليوم شاسعة للغاية، الأمر الذي يضاعف من تكرار الظاهرة"، مشيراً إلى أن "الحل الجذري يتمثّل في عودة المياه إلى مستوياتها السابقة داخل الأهوار، بما يعيد التوازن البيئي ويحد من الانبعاثات".
وختم المرياني بالقول إن "الاتصالات مع حكومة بغداد مستمرة منذ أشهر لمعالجة الأزمة، لكن من دون أي نتائج ملموسة حتى الآن".
وفي الأثناء، حذّر الأستاذ في جامعة ميسان، الدكتور صالح حسن، المختص في الشان البيئي من الآثار الخطيرة التي تخلّفها الملوثات الهوائية المنتشرة في أجواء المحافظة، مؤكداً أن "تأثيرها كبير صحة الإنسان والكائنات الحية على حد سواء، ولا سيما خلال فصل الصيف عندما ترتفع درجات الحرارة وتزداد حدة الانبعاثات".
وأوضح حسن أن "الدخان الكثيف الناتج عن احتراق القصب وجفاف الأهوار يتسبّب في تلوث الهواء بمستويات مقلقة الأمر الذي ينعكس مباشرة على صحة السكان في مدينة العمارة والمناطق المجاورة".
وسجلت مستشفيات ميسان في الأسابيع الأخيرة تزايداً ملحوظاً في أعداد المراجعين، خصوصاً من مرضى الصدر والجهاز التنفسي الذين يعانون من حالات اختناق وضيق في التنفس، فيما يتوجه آخرون إلى العيادات الخاصة والصيدليات لاقتناء أجهزة التنفس والإنعاش الرئوي.