سفك الدم بين أبناء العائلة الواحدة.. ماذا تعرف عن الجرائم السوداء في العراق؟

سفك الدم بين أبناء العائلة الواحدة.. ماذا تعرف عن الجرائم السوداء في العراق؟ تعبيرية

لم يعد العنف العائلي في العراق مجرد حوادث فردية معزولة، بل تحوّل خلال العام الحالي إلى ظاهرة مقلقة أخذت منحى تصاعدياً غير مسبوق، فقد سجلت البلاد سلسلة من الجرائم التي يطلق عليها محلياً اسم "الجرائم السوداء"، وهي أبشع أشكال العنف الأسري حيث يُقدم فرداً من العائلة على قتل أحد أقربائه، سواء كان ابناً، أو أخاً ينهي حياة شقيقه، أو حتى أباً يتخلّى عن أبسط معاني الأبوة ويقتل أبناءه.

 

ومع بداية 2025، دوّت هذه الحوادث كجرس إنذار مدوٍ في المجتمع، بعدما هزّت جريمة مدينة الصدر العاصمة بغداد، حين أقدمت عائلة على قتل ثمانية من أفرادها في واحدة من أكثر القضايا إثارة للرأي العام، ولم تمضِ أيام حتى توالت مشاهد القتل العائلي في مدن أخرى، منها النجف التي شهدت مقتل زوجين في جريمة مأساوية انتهت بالانتحار، وصولاً إلى الموصل التي كشفت التحقيقات فيها تورط أم وابنها في قتل شابة من العائلة ومحاولة إخفاء الجريمة بادعاء الوفاة بصعقة كهربائية.

 

بداية مأساوية للعام 2025


في اليوم الأول من العام الجديد 2025، اهتزت العاصمة بغداد على وقع جرائم مروعة عكست تصاعد العنف المجتمعي وانهيار قيم احترام القانون، وسط أزمات اقتصادية ومعيشية خانقة، وانفلات أمني وانتشار السلاح بشكل جعل ارتكاب الجرائم يبدو أمراً اعتيادياً في ظل ضعف الردع والشعور بإمكانية الإفلات من العقاب.

 

وزارة الداخلية العراقية أعلنت حينها أن قوات الشرطة الاتحادية ألقت القبض على 13 شخصاً يشتبه بتورطهم في قتل وإصابة 6 أشخاص خلال مشاجرة مسلحة شرقي بغداد.

 

وأوضحت أن "المشاجرة اندلعت في منطقة الحسينية، وتطورت بسبب خلاف أطفال إلى إطلاق نار أسفر عن مقتل 4 أشخاص وإصابة 2 آخرين".

 

وفي اليوم نفسه، أعلنت قيادة شرطة الرصافة القبض على رجل وامرأة متورطَين في قتل عائلة مكونة من 8 أفراد بمدينة الصدر.

 

البيان أوضح أن الحادث بدأ بقتل امرأة وطفلتين، ثم عُثر لاحقاً على 5 جثث أخرى تعود للعائلة نفسها داخل المنزل.

 

التحقيقات كشفت أن الجناة استدرجوا الضحية وقتلوها مع أطفالها الأربعة، ثم توجهوا إلى دارها لقتل بقية أفراد العائلة (طفلتان وعمتهم) بدافع ديون مالية ورغبة في سرقة الأموال.

 

وتؤكد الإحصاءات أن العراق سجّل خلال العامين الماضيين أعلى معدل لجرائم القتل عربياً، بواقع 11.5 جريمة لكل 100 ألف نسمة سنوياً، وبحسب بيانات وزارة الداخلية، بلغ عدد جرائم القتل نحو 5300 جريمة في عام واحد فقط، ما يجعلها من أخطر الظواهر الأمنية والاجتماعية.


من قتل العائلات إلى الانتحار بعد الجريمة


في 3 آذار 2025، شهدت بغداد جريمة صادمة حين أقدم رجل يعمل حارساً لأحد القضاة على قتل زوجته وابنه وابنتيه أثناء الإفطار، ثم سلّم نفسه للشرطة، ورغم أنه كان معروفاً بحسن سمعته، إلا أن دوافعه بقيت غامضة.


وفي 8 نيسان، أعلنت شرطة بغداد الرصافة القبض على سيدة قتلت زوجها في منطقة الزعفرانية (بستان علاوي) قبل أن تهرب إلى محافظة أخرى.


التحقيقات بيّنت أن أشقاء المتهمة تواطؤوا معها، حيث ضُبط السلاح المستخدم لديهم قبل أن يتم القبض عليها بكمين محكم.


أما في 20 أيلول، فقد هزت جريمة أخرى العاصمة بغداد، حيث أقدم ثلاثة أشقاء على قتل ابن عمهم طعناً جنوبي العاصمة إثر خلافات عائلية.


الضحية قُتل على الفور بعد تعرضه لطعنات قاتلة، بينما فرّ الجناة قبل أن تبدأ القوات الأمنية مطاردتهم.


وفي محافظة النجف، وقعت في أيار الماضي، جريمة مأساوية حين أقدم منتسب في وزارة الداخلية على قتل زوجته بسلاح ناري ثم انتحر، وذلك إثر خلافات عائلية متراكمة.


وفي نينوى، 30 تموز، كشفت الشرطة ملابسات جريمة قتل حاولت أسرة الإيحاء بأنها وفاة بصعقة كهربائية، حيث التحقيقات أثبتت أن شقيق الضحية ووالدتها تواطآ على قتلها بعد خلافات عائلية، لكن آثار التعذيب فضحت الحقيقة.


حزيران الماضي شهد أيضاً حادثة مقتل الشابة دنيا الكناني في بغداد، والتي أثارت ضجة واسعة بعد تقارير عن تمثيل بجثتها وتورط زوجها وأقربائه.


وأكدت والدة الضحية دنيا حينها تعرّض ابنتهم لجريمة تعذيب مروّعة أفضت إلى وفاتها، فيما سُجّل سبب الوفاة رسمياً على أنه "صعقة كهربائية"، وهو ما تنفيه العائلة بشكل قاطع، واصفة ما جرى بأنه "جريمة قتل إرهابية".


وأضافت أن "زوج ابنتها مارس بحقها تعذيباً وحشياً لا يختلف عن أساليب داعش"، لافتة إلى أنه "تحدى الجميع علناً وقال: (أنا قتلتها.. وين تردين تروحين؟ روحي!)"، وتساءلت: "أين الدولة؟ أين القانون؟ لماذا نحن بهذا الحال؟ هل سنُؤكل؟".


وفي البصرة، أقدم رجل على قتل زوجته إثر خلاف عائلي ارتبط بما وُصف في الإعلام المحلي بـ"گروب واتساب".


كما شهدت ناحية الطليعة في بابل منتصف سبتمبر جريمة قتل بشعة بعدما أطلق شاب النار من بندقية كلاشينكوف على والده وعمه إثر مشادة حادة.


هذه الجرائم ليست سوى نماذج من سلسلة طويلة من الأحداث المشابهة التي تتكرر في مختلف المحافظات، وتتنوع أسبابها بين خلافات مالية ونزاعات اجتماعية أو حتى بدوافع "الشرف"، فيما تبقى كثير من التفاصيل غير واضحة مع غياب التوثيق القضائي والإعلامي الكامل.


خارطة انتشار الجرائم وأسبابها


مسؤول أمني أكد لـ"الجبال" أن الجرائم العائلية لم تعد محصورة بمناطق معينة، بل باتت تتزايد في المدن الكبرى مثل بغداد والبصرة وذي قار وواسط والنجف وبابل.


وأشار إلى أن "انتشار السلاح داخل المنازل وتعاطي المخدرات يمثلان عاملين رئيسيين يحوّلان الخلافات البسيطة إلى جرائم قتل".


ويضيف المسؤول الأمني الذي طلب عدم الكشف عن هويته، أن "الإحصاءات تشير إلى تزايد معدلات العنف الأسري الذي يصل أحياناً إلى جرائم قتل بشعة بين الأزواج أو الأشقاء أو حتى بين الآباء والأبناء. وهي تنبع من خلافات مالية، وقد يرتبط بعضها بالعنف الموروث أو بتأثيرات نفسية واجتماعية".


ويعلّق بأن "الارتفاع الملحوظ في عدد الجرائم خلال السنوات الأخيرة يثير القلق خصوصاً في ظل تزايد استخدام الأسلحة داخل المنازل، ما يجعل المشاجرات الأسرية البسيطة تتحوّل إلى جرائم قتل".


من جانبه، يقول علي الربيعي، وهو ضابط في الشرطة المجتمعية، لـ"الجبال"، إن "البلاغات عن تهديد أبناء ذويهم تزداد، وتصل في بعض الحالات إلى القتل. وقد أبلغت العديد من العائلات عن أنها تعرّضت لتهديدات مباشرة من أبنائها، ما رفع مستوى الخوف داخل المنازل ودفع بعض الأسر إلى طلب الحماية أو التدخل العاجل من الجهات الأمنية".


ويشير إلى أن "خلافات عائلية حادّة كادت أن تتطور إلى جرائم قتل لولا تدخل الجيران أو أفراد من العائلة لاحتواء الموقف. ومن أبرز أسباب الظاهرة تعاطي المخدرات التي تؤثر على سلوك الأفراد وتجعلهم أكثر اندفاعاً وعدوانية، كما يشكل الانتشار الواسع للأسلحة داخل المجتمع عاملاً إضافياً يزيد خطورة النزاعات باعتباره يسهّل لجوء الأفراد إلى العنف المسلح لحلّ الخلافات العائلية".


 لجنة الأمن والدفاع النيابية كشفت بدورها في تاريخ (17 شباط 2025)، عن أسباب ما اسمتها بالجرائم السوداء التي تحصل داخل البلاد، مؤكدة أن نسبة كبيرة من هذه الجرائم تعود إلى الإدمان على المخدرات والخلافات العائلية.


عضو اللجنة علي البنداوي قال إن "حوادث القتل التي تحدث داخل الأسرة، مثل قيام الابن بقتل والده أو والدته أو شقيقه، أو قتل الأخ لشقيقه، تم رصدها في العديد من المحافظات خلال السنوات الأخيرة".


وأضاف، أن "التحقيقات الأولية مع العديد من الجرائم أظهرت أن النسبة قد تصل إلى 50% نتيجة الإدمان على المخدرات، بالإضافة إلى المشاكل العائلية الأخرى والخلافات الحادة التي تقود إلى هذه الجرائم".


وأشار إلى أن "هذه الجرائم ليست بمستوى الظاهرة، ولكنها تسجل بين فترة وأخرى، وتتناولها مواقع الأخبار ومنصات التواصل الاجتماعي بشكل دوري".


وأكد نعمة أن "ملف المخدرات هو من الملفات التي حذرنا من خطورتها منذ عدة سنوات، خاصة وأن لها ارتدادات قاسية على المجتمع، حيث تؤدي إلى زيادة الجرائم وفقدان العديد من الأشخاص لعقولهم، مما يسبب جرائم بشعة تصل إلى أسرهم بشكل مباشر".


وأوضح أن "وزارة الداخلية نجحت في الفترة الماضية في توجيه ضربات نوعية لشبكات الاتجار بالمخدرات، مما ساهم في انحصار هذه الظاهرة بشكل لافت".


وأردف أن "الجرائم السوداء، والتي تشير إلى جرائم القتل داخل الأسرة، هي محدودة لكنها تشكل قضية رأي عام، خصوصاً أنها جرائم بشعة ومؤلمة، ولكن التحقيقات تشير إلى أن دوافعها قد تكون المخدرات أو الخلافات العائلية التي تقود إلى النهايات المأساوية".

الجبال

نُشرت في الأربعاء 24 سبتمبر 2025 02:30 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.