تُشير سلسلة من التحذيرات الرسمية الصادرة عن مديريات الصحة والمياه المحلية في محافظات الفرات الأوسط بالعراق إلى تفاقم أزمة المياه. وتكشف وثائق حديثة من هيئات المياه في النجف والحلة، بالإضافة إلى رسالة رسمية من مديرية صحة كربلاء، عن انخفاض حاد في منسوب نهر الفرات، ما أدى إلى زيادة عكارة المياه وتلوثها بالبكتيريا، وهو ما يهدد الصحة العامة مباشرة. وقد أثار هذا الوضع موجة من الاستياء على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث نشر السكان صوراً ومقاطع فيديو للمياه غير النظيفة التي تصل إلى منازلهم، مما ينذر ببداية احتجاجات محلية متفرقة.
يمكن أن تتصاعد هذه الأزمة بسرعة، مهددة الاستقرار السياسي الهش في العراق. ففشل الحكومة في إدارة الوضع قد يؤدي إلى تحول هذه المظاهرات المحلية إلى حركة احتجاجية واسعة النطاق تمتد عبر المحافظات الواقعة على طول نهر الفرات. وقد حدث سيناريو مشابه في عام 2018، عندما أدى تلوث شبكة توزيع المياه في البصرة إلى تسمم أكثر من 118 ألف مواطن، مما أشعل احتجاجات البصرة عام 2018، وهي حركة أدت في النهاية إلى إحباط الطموحات السياسية لرئيس الوزراء آنذاك حيدر العبادي، وأنهت محاولته للفوز بولاية ثانية على الرغم من النصر التاريخي الذي حققته حكومته ضد تنظيم داعش. ولم يفصل بين التحذيرات من تلوث المياه في البصرة وبدء الاحتجاجات الضخمة سوى بضعة أيام، حيث كان استخدام الحكومة للقوة المميتة حافزاً لغضب المتظاهرين. وما زالت عوامل مماثلة موجودة في العراق عام 2025.
تهدد الأزمة هذه المرة "حياد" العراق الذي يتم الحفاظ عليه بعناية في الصراع الإقليمي المتصاعد بين الولايات المتحدة وإسرائيل ضد إيران ووكلاءها. فتقلص تدفقات المياه يضع الحكومة العراقية في موقف ضعف شديد، مما يجعلها عرضة لمطالب الدول المتشاطئة في منابع النهر، مثل تركيا وإيران. ويمكن لكلا البلدين الآن استغلال السيطرة على تدفقات المياه للضغط على بغداد من أجل الحصول على تنازلات سياسية. وهذا الضغط قد يقوض بشكل فعال جهود الحكومة الحالية للحفاظ على الحياد، مما قد يجبر العراق على السماح باستخدام أراضيه كمنصة لإطلاق عمليات عسكرية، وهو تطور من شأنه أن يضمن توسعاً كبيراً في الصراع الإقليمي.
يجب فهم هذه الأزمة في سياق أوسع من الفشل المنهجي. فقد أخفق العراق في التعامل بشكل استراتيجي مع العوامل البشرية التي تؤثر على مياهه، وأهمها السدود المقامة في دول المنبع، بالإضافة إلى سوء الإدارة الداخلية المزمن لموارده المائية. وقد أدى الغياب شبه الكامل للبنية التحتية الفعالة للحفاظ على المياه وإعادة تدويرها ومعالجتها، والذي تفاقم بسبب موجات الجفاف المتكررة، إلى حدوث أزمات نزوح داخلي بالفعل. ووفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، أُجبر أكثر من 168 ألف عراقي على النزوح من ديارهم بسبب الجفاف.
مع تعمق الأزمة، فإنها تنذر بمستقبل يتجاوز فيه النزوح كونه شأناً داخلياً. فقد يُجبر سكان أرض عُرّفت تاريخياً بأنهارها على التخلي عنها في المستقبل. وفي غضون بضع سنوات، قد يكون العراق في مركز أزمة هجرة كبيرة تدفع مواطنيه نحو تركيا والاتحاد الأوروبي، وهو ما يذكّر بموجة عام 2015 التي شهدت توجه أكثر من 760 ألف عراقي غرباً. وتواجه أوروبا بالفعل موجة من اللاجئين من إقليم كوردستان العراق، بسبب تدهور الأوضاع المعيشية. وفي حين لا توجد أرقام دقيقة لهذا النزوح، فإنه يشكل سابقة. وقد تجبر أزمة المياه المزمنة عدداً أكبر بكثير من السكان، هذه المرة من العراق الاتحادي، على اتباع طرق الهجرة القائمة بالفعل.
في نهاية المطاف، تقع المسؤولية الأساسية لإدارة أزمة المياه على عاتق العراق نفسه. يجب على الحكومة في بغداد إعادة تقييم أولوياتها الوطنية بشكل جذري. ففي حين تركز الإدارة الحالية على مشاريع البنية التحتية ذات المظهر اللامع، حيث تصب ميزانية الدولة الاستثمارية في الطرق والجسور الخرسانية في العاصمة، تتجمع قوة تهديد وجودي أكبر بكثير، يهدد بتحويل العراق إلى بؤرة عدم استقرار إقليمي وحتى عالمي.
إن اتباع استراتيجية بناء السدود، على الرغم من نجاحها بالنسبة لدول المنبع، لم يعد حلًا عملياً للعراق؛ فالدولة متأخرة جداً في هذا المجال. ولم يعد التحدي الأساسي يتعلق بتخزين المياه، بل بالإدارة الدقيقة لمورد نادر بشكل متزايد.
لذلك، يجب على العراق أن يعطي أولوية قصوى للاستثمارات في إعادة تدوير المياه والحفاظ عليها، على قدم المساواة مع قطاع النفط والغاز الحيوي. ويجب أن يكون الهدف الأسمى هو الحفاظ على كل قطرة ماء تدخل أراضيه واستخدامها بالشكل الأمثل. لقد أصبح من الضروري للأمن القومي العراقي أن يطور بشكل فاعل قدرته على معالجة مياه الصرف الصحي وإعادتها إلى أنظمته النهرية المنهكة.
وبالتوازي مع هذه الإصلاحات الداخلية، يجب على بغداد استغلال نفوذها الاقتصادي لإجبار جيرانها في المنبع على التفاوض. لم يعد بإمكان العراق تحمل فصل علاقاته التجارية الكبيرة عن احتياجاته الأمنية المائية الوجودية. ومع حجم تجارة سنوي يقترب من 20 مليار دولار مع تركيا و12 مليار دولار مع إيران، تمتلك بغداد ورقة ضغط.
يجب على العراق أن يربط استمرار الوصول الاقتصادي التفضيلي، بما في ذلك الإعفاءات الجمركية، بتحقيق تقدم ملموس في التوصل إلى اتفاقيات مائية ملزمة قانونياً. وفي حين أن حالات الجفاف التي تؤثر على كلا البلدين الجارين هي حقيقة خطيرة، يجب تطبيق مبدأ تقاسم الأعباء بشكل عادل. فالنموذج الحالي، الذي يُجبر فيه العراق كدولة مصب على استيعاب معظم تأثير الأزمة، غير مستدام.
وأخيراً، يجب على المجتمع الدولي أن يتبنى سياسة ضغط. فبدلاً من تقديم المساعدات غير المشروطة، ينبغي عليه إجبار الحكومة العراقية على إعطاء الأولوية لمشاريع الإدارة الشاملة للمياه. ويجب أن يتبع ذلك عروض واضحة للشركات الدولية لتقديم التكنولوجيا والخبرة اللازمة لمعالجة الأزمة بفعالية.
لم يعد التسامح مع الفساد المستشري والخلل الإداري في العراق خياراً، عندما تكون العواقب هي موجة هجرة جماعية أخرى نحو أوروبا وتحويل العراق إلى بؤرة عدم استقرار إقليمي. فاستقرار العراق وأمنه المائي ضروريان لكل من الولايات المتحدة - التي يمكنها تقديم التكنولوجيا والخبرة - والاتحاد الأوروبي. إن الاستثمار السياسي في قدرة بغداد على إدارة مياهها ليس عملاً خيرياً، بل استثماراً مباشراً في حماية الحدود الأوروبية، وتعزيز الفرص الاقتصادية، وضمان تهدئة طويلة الأمد في المنطقة.