الانتخابات العراقية والأزمة الاقتصادية القادمة

الانتخابات العراقية والأزمة الاقتصادية القادمة (مواقع التواصل)

أكثر من سبعة آلاف مرشّح في الانتخابات الحالية يتنافسون على 329 مقعداً، اختلطت في وجوههم المعروضة على البوسترات في الشوارع وجدران البنايات ملامح شخصيات مخضرمة منذ عام 2003 حتى اليوم، ووجوه أخرى قادمة من خارج الفضاء السياسي، من مواقع التواصل الاجتماعي وعالم الفنّ والنشاط المجتمعي، أو مجرد وجوه مليحة لطيفة.

 

هذا العدد الكبير من المرشّحين لا يعكس حيوية ديمقراطية بقدر ما يكشف عن أزمة في بنية التمثيل السياسي، وعن نفوذ المال والعشيرة، وقدرة "الزعماء" على تمويل وإدارة العملية الانتخابية. فهم يحرصون، في ظلّ القانون الانتخابي الحالي، على حصد أكبر عدد من الأصوات للقائمة، أكثر من حرصهم على فوز هذا المرشّح أو ذاك داخلها، ويتوسّلون هذه الأصوات حتى من أشخاص اشتهروا بالمقاطع الكوميدية على تطبيق "تيك توك". ومن الآن يمكن التنبؤ بشكل البرلمان القادم: زعماء معروفون تحيط بهم حاشية من النواب الذين يطيعون أوامر الزعيم.

 

البرلمان القادم لن يكون برلمان تغيير لمسارات خاطئة سابقة، بل محاولة أخرى لمعالجة المشكلات المتفاقمة بالوجوه نفسها التي تسبّبت بهذه المشكلات، وفي مقدّمتها المشكلة الاقتصادية.

 

فالأزمة الاقتصادية القادمة في العراق تبدو أقرب إلى عاصفة مالية هادئة تتكوّن ببطء في الأفق. فعلى الرغم من ارتفاع الإيرادات النفطية خلال العامين الماضيين، إلا أن البنية الاقتصادية الريعية تجعل البلاد مهددة بأي انخفاض في أسعار النفط أو تقلّص في الصادرات. إن الاقتصاد العراقي، المعتمد كلياً على بيع النفط لتمويل الموازنة ورواتب ملايين الموظفين، لا يمتلك احتياطياً صناعياً أو زراعياً يحميه من الهزّات العالمية.

 

أيّ هبوط لسعر البرميل دون مستوى 70 دولاراً سيقود إلى عجز مالي واسع، وستجد الحكومة نفسها أمام معضلة مزدوجة: تقليص الإنفاق أو اللجوء إلى الاقتراض الداخلي والخارجي، وكلا الخيارين يهدّدان الاستقرار النقدي والاجتماعي. تترافق هذه المخاطر مع استمرار القيود على التحويلات الدولارية وتضييق الأسواق على القطاع الخاص، ما يفتح الباب أمام ارتفاع الأسعار وانكماش المشاريع الصغيرة.

 

الأزمة ليست في المال وحده، بل في بنية الدولة التي استبدلت الإنتاج بالتوزيع، فتحوّل المواطن إلى مستهلك مرتبط براتب الدولة. ومع أي اختناق في التدفقات المالية تتوقف عجلة الحياة اليومية، ويتحوّل الخوف من نقص الرواتب إلى ذريعة لتأجيل الإصلاحات البنيوية. وعلى الأغلب، ستحاول الحكومة القادمة مواجهة هذه التحديات بسياسات ترقيعية مؤقتة، بدلاً من مواجهة جذرية لبنية الاقتصاد الريعي. وهي مواجهة غير محبّبة للجمهور العام، وقد تكلّف من يتصدّى لها شعبيته، لكنها ضرورية لأي إصلاح حقيقي.

 

هل تستطيع القوى الحالية الدفع باتجاه هذه المواجهة "الإصلاحية" المؤلمة؟ لا تشير المعطيات إلى ذلك، فهذه القوى منشغلة بتوسيع قواعدها الانتخابية المنحسرة أصلاً، وتراجع شعبيتها.

 

إن ردّة الفعل التي ستحدث عند أي تراجع في مداخيل المواطنين أو غلاء الأسعار ستنطلق من داخل المجتمع المخدَّر الآن بالمرتّبات ووظائف "البطالة المقنّعة"، وهؤلاء قد يرفعون سقف الاحتجاج إلى ما هو أبعد من احتجاجات تشرين 2019

.

على رئيس الوزراء القادم، والائتلاف السياسي الذي يختاره، أن يتأمّلوا في تجارب أمم أخرى خاضت المصاعب ذاتها التي يعيشها العراق اليوم، مثل النرويج التي حوّلت ثروتها النفطية إلى صندوق سيادي يحمي الأجيال القادمة واعتمدت على تنشيط مصادر الاقتصاد الأخرى، أو إندونيسيا التي غرقت في الفساد بعد حكم سوهارتو، لكنها استعادت عافيتها بعد تحقيق استقلال حقيقي للبنك المركزي وتنويع اقتصادها الصناعي ودعم استقلالية الحكومات المحلية في اتخاذ القرارات التنموية. كذلك ماليزيا التي أنفقت أموالاً طائلة لبناء اقتصاد قائم على التعليم والتكنولوجيا.

 

من دون فتح الاقتصاد العراقي، وبناء سياسات حماية وسلطة قانون قويّة تحمي المستثمرين من ابتزاز الأطراف الخارجة على القانون، لن يتمكن النفط وحده من تأمين لقمة العيش للعراقيين. وهؤلاء لن تقف في وجوههم تخويفات عقائدية أو تحشيدات طائفية لتمنعهم من الاحتجاج في الساحات والشوارع.

 

 


أحمد سعداوي كاتب وروائي

نُشرت في الجمعة 31 أكتوبر 2025 10:29 ص

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية

© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.