في العراق، لا تنتهي الانتخابات بتبدّل الوجوه، بل تبدأ بإعادة إنتاج الخراب بأسماء جديدة. لعقدين كاملين، ظلّ البرلمان حقلًا لتوريث النفوذ العشائري، حيث يُرشَّح الشيخ لا لأنه الأجدر، بل لأنه "صاحب جاه"، ويُنتخب ابن الزعامة لا لأنه يملك مشروعاً، بل لأنه يملك مضيفاً وساعة من ذهب.
فمع انطلاق الحملات الانتخابية بعد مصادقة المفوضية، تبدو انتخابات 2025 مختلفة عن سابقاتها، ثمّة شيء يتغيّر في بنية التمثيل السياسي، أو يتظاهر بأنه يتغيّر، فالعقال قد تراجع قليلًا، وظهر بدله "رجل الأعمال" بربطة عنق وابتسامة. لم يعد المال خفيًّا في المشهد، بل صار هو المشهد ذاته. التاجر لم يعد يكتفي بتمويل الحملة، بل بات هو الحملة.
من الذي يدفعه إلى واجهة البرلمان؟ ولماذا الآن تحديداً؟
وهل نحن أمام تحول ديمقراطي ناضج، أم أمام عملية استيلاء ناعمة تُعيد تعريف السلطة من جديد، لا لصالح الشعب، بل لصالح السوق؟
هذا البحث لا يلاحق الأسماء، بل يفتّش في ما وراء الظاهرة.
من العشيرة إلى الشركة، من الولاء إلى العقد، من الوجاهة إلى رأس المال، يضع هذا النص التحولي العراق على الطاولة، ويسأل: هل دخلنا عصر "الدولة البورجوازية" ببطاقة ناخب؟ أم أننا ببساطة؛ استبدلنا العقال بالشيك؟
منذ لحظة سقوط النظام في 2003، لم تكن العشيرة مجرد مكوّن اجتماعي، بل تحوّلت بسرعة إلى ذراع تمثيلي في الدولة الجديدة. الأحزاب، خاصة تلك الخارجة من عباءة المعارضة، وجدت في شيوخ العشائر بابًا سريعًا لحصد الأصوات وبناء جمهور. أما الدولة، فوجدت فيهم حلفاء لضبط المجتمع، وتهدئة الاحتجاجات، وتسويق قراراتها "من الأعلى إلى الأسفل".
في الجنوب والغرب على وجه الخصوص، لم يُصوَّت للمرشح بناءً على كفاءته التشريعية، بل على نسبه، ومقدار ما يمثله من وجاهة اجتماعية. كانت شرعية التمثيل تُستمد من عدد السيارات التي تقف عند ديوان الشيخ، لا من فقرات البرنامج الانتخابي. وتحولت القوائم الانتخابية إلى مضايف مصغّرة، كل قائمة فيها شيخ، ونجل زعيم، ووجه عشائري لا علاقة له لا بالتشريع، ولا بالرقابة، ولا حتى باللغة العربية.
في انتخابات 2005 و2010، كان المشهد واضحًا: العشيرة هي التي ترشّح، والناخب يُعبّأ عبر "الربعة" لا عبر الفكرة. دخل كثيرون قبة البرلمان ولم يعرفوا ما الفرق بين مشروع قانون ومشروع ماء. لكنهم عرفوا كيف يُفاوضون باسم عشيرتهم، وكيف يُهددون بسحب الشارع إذا لم تُمنح لهم لجنة أو منصب.
لم يكن ذلك خللًا في صناديق الاقتراع، بل خللًا في عقل الدولة. كانت الشرعية تُمنح على أساس التوازنات العشائرية والطائفية، لا على أساس الكفاءة والجدارة. وكان البرلمان انعكاسًا لصراع الزعامات، لا ساحة لصناعة القوانين.
لكن الزعامة العشائرية بدأت تتآكل ببطء.. لا لأن الشعب قرر محاسبة رموزه، بل لأن اللعبة نفسها تغيّرت.
فالعشيرة لم تعد المصدر الوحيد للحشد، والحزب لم يعد مضطرًا للاعتماد على شيخ قبيلة كي يضمن له خمسة آلاف صوت. ظهرت بدائل: منصات، إعلام رقمي، خدمات مباشرة، ومرشحون يملكون المال بدل الجاه.
ومع هذا التآكل، بدأ بعض شيوخ العشائر يشعرون أنهم لم يعودوا الرقم الأصعب. صاروا يُستبدلون بمرشحين "مدنيين" أو "رجال أعمال"، بعضهم لا يعرف أصول القبيلة، لكنه يعرف أصول الاستثمار.
في انتخابات 2018، كان حضور عالي للمرشحين الذين حملوا صفات عشائرية صريحة (شيخ عام، نجل زعيم، شيخ قبيلة) . في 2021، انخفض هذا العدد، مع تراجع واضح في نسب النجاح. لم تعد العشيرة كافية، ولا الوليمة تُقنع ناخبًا يبحث عن وظيفة أو كهرباء.
ففي ذات مرة, قالت الباحثة أليسون بارجيتر إن "ديناميكيات العشيرة بدأت تتغير قبل انتخابات 2021، وأن الأحزاب قللت زياراتها لمضايف العشائر مقارنة بالسابق".
وهكذا، ومع أفول نجم الشيخ السياسي، بدأ نجم جديد يُولد.. نجم "رجل الأعمال".
لنأخذ بغداد مثلاً، فبغداد عاصمة الدولة التي تُنحر يوميًا باسمها، لم تكن يومًا مدينة عشائرية بالمعنى الكلاسيكي. لم تكن الطارمية كالناصرية، ولا المدائن كالبصرة. ومع ذلك، لم تسلم من اختراق "الوجاهات الاجتماعية" لتمثيلها النيابي. في أطراف العاصمة خصوصًا، تسلل أبناء العشائر إلى القوائم، لا لأنهم يحملون مشروعًا حضريًا، بل لأنهم يحملون “سندًا عشائريًا” يضمن ألفًا هنا وألفًا هناك.
لكن هذه الصيغة بدأت تتفكك.
في انتخابات 2025، تُظهر القوائم المعلنة تغيرًا صادمًا في تركيبة المرشحين. شيوخ الأمس لم يُستبدلوا بنقابيين، ولا بشباب الاحتجاجات، بل برجال أعمال… وأحيانًا أصحاب “استثمارات رمادية”.
بات واضحًا أن المعادلة تغيّرت: لم تعد الكلمة للشيخ، بل للتاجر؛ ولم يعد التأثير يُقاس بعدد الحضور في المضافة، بل بعدد متابعي الحملة على إنستغرام.
التاجر بوصفهِ مرشحًا، في مناطق مثل الكرادة، الحارثية، الدورة، وأبو غريب، يُلاحظ ازدياد عدد المرشحين الذين يقدّمون أنفسهم ليس بوصفهم “خدّام الناس”، بل كمشاريع قائمة بحد ذاتها.
سلسلة مطاعم، شركة مقاولات، مكتب استيراد، منصة تجارة إلكترونية - هذه هي سيرهم الذاتية، وهي أيضًا خطابهم السياسي.
لا يتحدثون عن التمثيل، بل عن “الإدارة”.
ولا يَعِدون بمحاربة الفساد، بل بتحقيق “كفاءة في الإنفاق” وكأن البرلمان شركة مساهمة، والشعب مجرد زبون.
الحملة الانتخابية للتاجر لا تنطلق من ديوان، بل من مكتب إعلامي يشرف عليه خبير تسويق رقمي. الصور مصقولة، الشعارات قصيرة، الفيديوهات مُمنتجة بعناية.
لا وقت للأهازيج، هناك إعلان مدفوع على فيسبوك.
لا مكان لوليمة المناسف، هناك بروشور يشرح “رؤية النائب لتطوير البنى التحتية”.
هذا الانتقال من الدعاية العشائرية إلى الدعاية السوقية هو في ذاته تحوّل في مضمون التمثيل:
من “أنا ابنكم، صوتوا لي”، إلى “أنا منتَج، اشتروني”.
رجال الأعمال المرشحون في بغداد لا يستهدفون الطبقات المهمّشة، ولا يستميلون الفقراء بوعد الوظيفة. بل يخاطبون “الطبقة المتوسطة الحائرة” التي تريد أي شيء يُشبه الدولة، ولو كان وهمًا بربطة عنق.
يحاولون مخاطبة الناخب المحبط بلغة “الخدمات، المشاريع، الرؤية”، لكن كثيرًا منهم لا يخرج عن منطق الصفقة: “أعطني صوتك، أعدك باستثمار”.
ومع أن هذا الخطاب يبدو أكثر “حداثة”، إلا أنه يثير الريبة: هل هو وعد تنموي؟ أم استدراج باسم التنمية للهيمنة على القرار السياسي؟
في السياسة، لا أحد يُشاركك حمل الراية مجانًا.
والأحزاب العراقية، التي اعتادت أن ترفع شيوخ العشائر على أكتافها الانتخابية، بدأت منذ سنوات تُبدّل ثقلها نحو من يملك القدرة على “حمل الحملة”، ماليًا أولًا، ثم دعائيًا. وهكذا، دخل التاجر إلى اللعبة من باب التمويل… لكنّه جلس في الصدارة.
بعض الأحزاب، خصوصًا الناشئة أو الضعيفة تنظيميًا، لم تعد تبحث عن مرشحين “أصحاب شعبية”، بل عن مرشحين “أصحاب قدرة مالية”.
صار التاجر هو الحلّ: لا يطلب تمويلًا من القيادة، لا يتذمّر من نقص الموارد، ويجلب معه جمهورًا استهلاكيًا يمكن تحويله إلى ناخبين.
بعض هؤلاء يرشّح نفسه ضمن قائمة معينة لا لأنه يؤمن بخطها السياسي، بل لأنه يرى فيها قناة عبور.
بمعنى آخر: هو يستأجر المنصة لا يعتنقها.
في كثير من التحالفات، يظهر رجل الأعمال في المرتبة الأولى أو الثانية ضمن القائمة، لكنّه لا يمتلك أي سلطة داخل الكتلة.
هو مُجرّد واجهة تمويلية، أو “مرشّح تسويق”. وعندما ينتهي موسم الانتخابات، تبدأ مرحلة التهميش الممنهج، وتعود القرارات إلى “أصحاب السطوة التنظيمية”، أي الحزب الحقيقي.
بعض الأحزاب تستخدم رجال الأعمال كـ”ألغام انتخابية” تفجّر بها القوائم المنافسة، خصوصًا عبر تشكيل قوائم ظل أو تشتيت الأصوات.
هل هو تحالف أم توظيف متبادل؟
من جهة، التاجر يستخدم الحزب ليعبُر إلى البرلمان، والحزب يستخدم التاجر ليعبر به العتبة المالية والإعلامية.
لكن حين تنتهي الحاجة، ينكشف الطابع الانتهازي للعلاقة.
قلّة فقط من رجال الأعمال نجحوا في تحويل مقاعدهم إلى أدوات تأثير حقيقي في التشريع، أما البقية، فإما سُحب منهم القرار، أو تمّت محاصرتهم داخل لجان ثانوية لا وزن لها.
وهنا يُطرح سؤال مفصلي:
هل يمكن لرأس المال أن يتحوّل إلى مشروع سياسي مستقل في العراق؟ أم أنه سيظلّ رهينة التوظيف الحزبي، أداةً لا فاعلًا؟
التحوّلات السياسية لا تُقاس فقط بتغيّر الأسماء أو الشعارات، بل تُقرأ من خلال الشارع: من يرى، من يتحدث، ومن يُهمَّش. وفي انتخابات 2025، لا يمكن فهم صعود رجال الأعمال إلى الواجهة دون الاستماع إلى الأطراف الثلاثة المعنية: المرشح التاجر، الشيخ الذي تراجع حضوره، والناخب الذي يعيش المفارقة يوميًا.
هذه التحوّلات لا تأتي من فراغ؛ فالأحزاب التقليدية، التي اعتاشت طويلًا على دعم العشائر، بدأت هي الأخرى تغيّر استراتيجيتها. فتشير تقديرات ميدانية إلى أن أكثر من 60% من الأحزاب اتجهت خلال العامين الأخيرين نحو رجال الأعمال بدلًا من الاعتماد على الزعامات العشائرية. السبب واضح: المال أسرع في حسم المعركة الانتخابية من الولاءات الاجتماعية، خصوصًا مع تراجع نفوذ العشيرة داخل المدن الكبرى.
وبعد أن صادقت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات رسميًا على أرقام التحالفات والمرشحين، بدأ رجال الأعمال بإطلاق حملات إعلامية، خاصة في بغداد والبصرة.
حتى قبل المصادقة النهائية، كانت تظهر الإعلانات تمهيدية على صفحات فيسبوك، لافتات مؤقته، وحتى لقاءات على وسائل الإعلام المحلية، يقدّم فيها المرشح نفسه دون الإشارة إلى رقم القائمة أو اسم التحالف، لكنه كان يلمّح إلى “الترشيح القادم”.
وبعد المصادقة، تحوّلت تلك الدعايات التمهيدية إلى حملات رسمية، بملصقاتٍ تغزو الشوارع، وإعلاناتٍ مدفوعة تملأ الفضاء الرقمي، لتعلن دخول المرشحين إلى سباق انتخابي معلن بعد أن كان يُدار بخطواتٍ غير رسمية.
(م. س.)، رجل أعمال ومرشح عن إحدى القوائم ببغداد، ولم يعد دخول البرلمان يعتمد على الولاءات التقليدية أو الدعم العشائري، اليوم يعتمد على القدرة المالية والتنظيمية. أنا أستثمر في حملتي منذ أشهر، وأدير فريقًا إعلاميًا كاملًا، لأن المنافسة لم تعد تُحسم بالوجود في المضافة أو باللقاءات التقليدية، بل بحضور قوي على الأرض وفي الفضاء الرقمي. التغيير واضح: البرلمان أصبح ساحة تتقاطع فيها المصالح الاقتصادية والسياسية، والمرشح الذي يملك الموارد يستطيع فرض نفسه بسرعة".
أما شيوخ العشائر الذين اعتادوا خوض الانتخابات بدعم مباشر من الأحزاب، بدأ بعضهم يشعر بضعف الموقع.
الشيخ (م. ع.)، الذي سبق أن فاز بمقعد نيابي في دورة 2014، قال: "هناك تغيير واضح. لم أُدعَ إلى التفاوض كما في الدورات السابقة. أصبحت الأولوية للمرشحين الذين يموّلون أنفسهم أو يقدّمون خدمات ميدانية مدعومة بالمال والإعلام".
حديثه لا ينطوي على اعتراض، بقدر ما يعكس واقعًا سياسيًا جديدًا: الولاء القبلي وحده لم يعد كافيًا، والأحزاب باتت تميل إلى من يخفّف عنها عبء الحملة.
في أحياء مثل مدينة الصدر، الدورة، الكرادة، التقت المادة بعدد من الناخبين.
س.، وهو موظف متقاعد، قال: "جربنا الشيخ، وتحمّلنا نتائج أداءه الضعيف. اليوم نرى التاجر، لكنه لا يمثّلنا بالضرورة. هو يمثّل نفسه وشركته، وقد يستخدم البرلمان لحماية مصالحه".
بينما تقول أم حسين، ربة منزل من منطقة الشعب وعن لِسانها نصًا: "إذا كان التاجر يريد يدخل البرلمان حتى يفتح مشروع لو يكبر شغله، فهذا مو نائب، هاي تجارة. النائب لازم يطالب بحقنا، مو يركّز بس على شغله".
ومع ذلك، هناك أصوات أخرى ترحّب بالتغيير، على أساس أن "المال قد يعني تنفيذ المشاريع"، أو كما قال أحد الشباب: "التاجر ممكن يبني مدرسة إذا عنده مصلحة، أما الشيخ يطالب بخدمات وما ينفّذ شي".
الميدان لا يملك رأيًا موحّدًا، لكنه يعكس انقسامًا واضحًا:
•من فقد الثقة بالزعامات التقليدية يبحث عن بدائل.
•ومن يرى أن التاجر ليس بديلًا حقيقيًا، يخشى من تغوّل المصالح الاقتصادية على القرار السياسي.
ومع غياب قوانين صارمة لضبط التمويل الانتخابي، وغياب الشفافية في الحملات المبكرة، فإن الطريق إلى البرلمان صار مفتوحًا لمن يستطيع أن يسبق القانون… بالمال أو بالنفوذ.
إذا كانت العشيرة قد دخلت البرلمان بسندها الاجتماعي، فإن التاجر اليوم يدخل بسند مصرفي.
وإذا كان الشيخ يطلب المقعد ليُراكم الوجاهة، فإن رجل الأعمال يسعى إليه ليُراكم النفوذ.
هكذا يتغيّر تمثيل الناس… ليصبح تمثيلًا للمصالح.
لكن هذا التحوّل، وإن بدا طبيعيًا في سياق الانفتاح الديمقراطي وتوسّع الطبقة الاقتصادية، يُثير أسئلة جدية حول وظيفة البرلمان ومفهوم “النائب” في العراق.
من يُشرِع لِمَن؟
حين يدخل التاجر البرلمان، وهو صاحب شركة مقاولات، أو مدير سلسلة مطاعم، أو يملك علاقات مع جهات تنفيذية، فإن السؤال المباشر يصبح:
هل سيصوّت لقانون يُقيّد عمله؟
هل سيقبل بضريبة على الأرباح؟
هل سيدفع باتجاه فتح المناقصات للمنافسين؟
غالبًا، الجواب يكون بالنفي.
لأن النائب التاجر لا يدخل بوصفه “ممثل الشعب”، بل “وكيل مشروعه”.
وفي بلد مثل العراق، حيث لا تزال آليات كشف الذمّة المالية محدودة، ومؤسسات الرقابة ضعيفة، فإن الدخول السياسي للتاجر يصبح بابًا لتوسيع إمبراطوريته الخاصة، لا بابًا لإصلاح الاقتصاد الوطني.
لوبي إقتصادي!!
مع تزايد عدد رجال الأعمال داخل المجلس، هناك خطر بتحوّل البرلمان إلى مساحة ضغط منسّقة لصالح فئة معينة — تشارك الخلفية نفسها، والمنفعة نفسها، والرؤية نفسها للسوق.
وقد تبدأ مرحلة تشريع “مفصّل حسب المقاس”، تُسقط قوانين الإصلاح، وتعطّل ضرائب الثروة، وتُعيد ترتيب المناقصات وفق شبكات العلاقات، لا الحاجة العامة.
وهنا، يصبح البرلمان امتدادًا لغرفة تجارة، لا ساحة تشريع.
في حال توغّل رأس المال، قد لا يقتصر الخطر على الانحراف عن المصلحة العامة، بل يمتد إلى داخل المؤسسة التشريعية نفسها، عبر صراعات بين نواب يمثّلون مشاريع اقتصادية متنافسة.
وقد نشهد ولادة تحالفات نيابية تُبنى على أساس الاستثمار والمصلحة، لا التوجّه السياسي أو الفكري.
هكذا، بدلاً من الجدل حول قانون العدالة الانتقالية أو حماية البيئة، سنجد معارك شرسة على قانون الجمارك، أو نسب الضريبة، أو منح التراخيص — ليس لصالح الناس، بل لصالح من يدفع أكثر.
من يُمثل الشارع؟
بين الشيخ الذي فقد هيبته، والتاجر الذي اشترى مكانه، يظهر فراغ سياسي واضح:
أين الممثل الحقيقي للناس؟
أين مرشحو القواعد الاجتماعية، الفئات المهمشة، النقابات، والشرائح المدنية؟
للأسف، في ظل سيطرة المال على الساحة، وتراجع فرص المستقلين، فإن تمثيل هذه الفئات يزداد صعوبة.
وما لم تُعَد صياغة قواعد اللعبة — خصوصًا قوانين تمويل الحملات والشفافية المالية — فإن الباب سيبقى مفتوحًا أمام من يملك، لا من يستحق.
المال ليس شرًّا بحد ذاته. وقد يكون وجود رجال أعمال ناجحين في السياسة أمرًا طبيعيًا في أي نظام ديمقراطي. لكن الخطر يكمن حين يتحوّل التمثيل السياسي إلى أداة لتوسيع الثروة، ويُقصى منها من لا يملك رأس مال.
حينها، لا يُنتخب النائب لأنه يُجيد التشريع… بل لأنه يجيد الحساب.
العراق اليوم لا يستعد فقط لانتخابات جديدة، بل لاحتمال أن يتغيّر شكل التمثيل النيابي نفسه.
الشيخ الذي كان يُستدعى ليملأ القاعة، بدأ يُغادرها بهدوء.
والتاجر، الذي اعتاد أن يموّل الحملات من الخلف، صار يطلب المقعد من الأمام.
لسنا أمام تغيير في الوجوه فقط، بل في جوهر التمثيل.
المال السياسي لا يكتفي الآن بصناعة الحملات، بل بدأ يصنع القوائم.
والأحزاب التي كانت تبحث عن الأصوات، باتت تبحث عن المموّلين.
في هذا السياق، تبدو انتخابات 2025 وكأنها لحظة فاصلة:
هل نذهب نحو برلمان يمثّل الناس فعلًا؟
أم نحو مؤسسة تشريعية تتحوّل تدريجيًا إلى غرفة لمصالح السوق؟
المشهد ليس محسومًا بعد.
لكن إشاراته الأولى تُنذر بتقدّم رأس المال على كل اعتبار آخر.
وهنا، يكمن التحدّي الأكبر:
كيف نضمن أن لا يتحوّل البرلمان القادم إلى مظلة لمشاريع خاصة، وأن تصبح النيابة وظيفة تمثيل، لا استثمار سياسي؟
كيف نحمي التشريع من تضارب المصالح؟
وكيف نعيد تعريف من هو “النائب” في دولة ما تزال تبحث عن نفسها؟
إن إعادة النقاش إلى هذه الأسئلة — الآن، قبل أن نُفاجأ بالنتائج — هي مسؤولية الصحافة، والنخب، والمجتمع معًا.
فالتحوّلات الكبرى لا تأتي من صناديق الاقتراع فقط، بل من الصمت الذي يسبقها… أو من الصخب الذي يكسر هذا الصمت.
تعبيرية