ربما لا يروق للبعض حينما نتحدث عن العراق كبلد ذات تقسيم طائفي و مذهبي، ولكن هذه هي الحقيقة، وإنكارها ليس فقط لا يغير من الحقيقة شيء، بل إن هذا الانكار يؤدي الى عواقب غير مرجوة.
هذا ليس ادعاء من قبلنا، بل لدينا ما يسندها من تجارب سياسية في تاريخ العراق الحديث. على هذا الأساس فإن بناء النظام السياسي الحالي في العراق أو ما يسمى بالعراق الجديد بعد سقوط نظام البعث في 2003 على أسس قومية وطائفية تحت عنوان (التعددية و الفدرالية)، كانت أكثر فكرة واقعية وأحسن اختيار لشكل النظام وأنسب توافق تتناسب وطبيعة الخارطة الاجتماعية والجغرافية والسياسية في العراق.
فالعراق شئنا أم أبينا، بلد قائم على أساس طائفي ومذهبي وقومي، وأي إنكار لهذا الواقع أو هذه الحقيقة، والذي له أبعاد ليست فقط اجتماعية بل سياسية أيضاً، ما هي إلا هروب عن حقيقة واقعية، واضحة وضوح الشمس.
تاريخياً، فإن التجارب الماضية أثبتت أنَّ إنشاء نُظم الحكم السياسية المختلفة في تاريخ العراق السياسي، بعيداً عن هذه الحقيقة أو على أساس انكار هذه الحقيقة و طمسها، أدى إلى عدم نجاح تلك النظم و انهيارها واحداً تلو الآخر. فالنظام السياسي ما هو إلا انعكاس للطبيعة الجغرافية والقومية والاجتماعية والدينية في أي بلد.
وعلى هذا الأساس، فإن النظام الفدرالي التعددي الذي بُني بعد سقوط نظام البعث هو أنسب نظام سياسي يتناسب مع الخارطة الاجتماعية للبلد، وإن كان غير متكامل الأركان ويحتاج الى صيانة واستكمال. فالبلد منقسم من حيث الأصل والطبيعة على شكل مثلث، من حيث الانتماء الطائفي والمذهبي (الشيعة، السنة، الكورد)، ومنقسم الى جزئين رئيسيين من حيث الانتماء والوجود القومي (العربي والكوردي). لذلك، فإن أحد عوامل وأسرار بقاء واستمرار النظام السياسي الحالي في العراق (منذ أكثر من عشرين عاماً، رغم وجود فساد وعوامل أخرى تُنبئ بزوالها كما تَنبّأ بها البعض) يرجع الى مراعاة النظام القائم لهذا التقسيمات الحقيقية للعراق. فالنظام بنى نفسه على أعمدة هذه الخريطة الطائفية والقومية لا على أساس إنكارها، كما حصل في السابق.
واليوم، تأتي الانتخابات العراقية المقرر إجراؤها في (11/11/2025) لتنشِط من جديد، كما في كل مرة، هذا النظام وتؤكد على استمراريته. فها نحن نشهد التصويت والترشيح في إقليم كوردستان كما في كل مرة على أساس قومي، والتنافس يقتصر ما بين الأحزاب الكوردستانية، والنواب الفائزون هم في الآخر نواب إقليم كوردستان في بغداد ويمثلونه ولا يمثلون العراق بطبيعة الحال.
نفس المعادلة في الجنوب الشيعي، وفي الوسط السني، رغم وجود تنافس مشترك بغالبية شيعية، في بغداد. فهذه الصورة الانتخابية التي تعكس التقسيم الطائفي والقومي بكل وضوح، ما هي إلا تأكيد واستمرار لطبيعة النظام السياسي القائم في العراق، كنظام تعددي طائفي ومذهبي.
لذا فالانتخابات كعملية سياسية تأتي كل فترة أو كل أربع سنوات، لتبعث من جديد الروح والحياة في هذا النظام السياسي.
وأرى أن هذه المرة في انتخابات 2025، أن الخطاب القومي والمذهبي حاضر بقوة أكثر من أي انتخابات سابقة خاصة بين بغداد وإقليم كوردستان، وذلك بسبب الصراع والاختلافات التي حصلت في الفترة السابقة حول مسألة الرواتب و الحصة من الميزانية و نفط كوردستان وصراع الصلاحيات التي شعرت هولير أن بغداد تريد أن تضايقها بها.
وفي إقليم كوردستان، المؤشرات تثبت أن الخطاب القومي له حضور قوي في تأجيج مشاعر الناخبين وتوجيه مسار تصويتهم، رغم كل الضغوط المعيشية التي يتعرض لها المواطن الكوردستاني من خلال ازمة قطع الرواتب، إلا أنَّ التمسك بالهوية القومية ازدادت صلابة خلافاً للتوقعات.
وفي الجنوب أيضاً، الخطاب المذهبي له حضور قوي، فمثلاً السيد مقتدى الصدر رغم عكوفه عن المشاركة الانتخابية إلا أنه غير اسم تياره قبل سنوات من التيار الصدري الى التيار الوطني الشيعي.
هنا، يجب الالتفات الى نقطة تنبيهية مهمة، وهي أنّ الحفاظ على الطبيعة التقاسمية للنظام السياسي بهذا الشكل هي ضمانة لبقاء النظام السياسي الحالي في العراق واستمراره، رغم ما فيه من عيوب كبيرة. وإن الذين تنبأوا بزوال هذا النظام بسبب الفساد المستشري فيه رغم صدق وصواب توجههم، نسوا هذا الجانب المهم في هذا النظام ألا وهو مراعاته للتقسيمات الطائفية والمذهبية في العراق، فهو سر بقائه.
إذاً، إن أي محاولة لتغيير أو التأثير السلبي في هذه المعادلة رسمياً أو سياسياً من قبل ذوي النفوذ في العراق لا يَنتج عنه إلا سقوط وزوال النظام السياسي برمته كما حصل مع سابقاته. فمن أراد الإبقاء على النظام السياسي الحالي في العراق عليه التمسك بصدق بالنظام الفدرالي التعددي، والكف عن المحاولات البائسة لإرجاع المركزية وإضعاف اللامركزية، كما فعلت بعض الأحزاب والقوى المتنفذة في بغداد ضد إقليم كوردستان في الآونة الأخيرة.
وإن أي تدخل في الشأن السياسي الداخلي لطائفة أو قومية معينة، كما يحدث للطائفة السنية في العراق من قبل أصحاب النفوذ من طائفة أخرى، هو تخريب لطبيعة هذا النظام، سيؤدي بالتالي إلى إيجاد خلل في جسم النظام وسقوطه فيما بعد.