في الثالث من تشرين الأول سنة 1932 استقلت المملكة العراقية عن الانتداب البريطاني.
كانت رحلة سياسية واجتماعية صعبة، فقد تحولت الجغرافيا عبر خطوط ترقيم سياسي عقب الحرب العالمية الأولى وحتى قبلها، فقد كان التحول يتحرك لصالح الفائزين.
ذلك التحول أخذ معه جمهور عاش قسم منه في مرحلتين، العثمانية و البريطانية، وصارت تقسيمات المنطقة، ومنها نشوء كيان حديث، صورة مركبة أخرى للعراق، وهذه القضية سياسياً لم تنحصر في هذه الجغرافيا، بل هي تكاد تكون مطلقة، مرت بها كل الجغرافيا، واشتغل عليها كل قوي ومدرك لتطورات مسارات التحكم والسيطرة.
لم تكن تجربة إقامة حكم في العراق هيّنة، لا لبريطانيا، و لا للعراقيين، و لا لفيصل بن الحسين. لكن الأقوى هو الذي فرض مشروعه، وفرض المشاريع لا يعني دوامها دوماً، فالمتغيرات السياسية والمصالح، تلعب دورها الفاعل في التبدلات، كذلك الضعف، فهو أيضاً عامل مؤكد في تقوية الآخرين.
ما بين الاستقلال 1932و1958 والإطاحة بفيصل الثاني والملكية 26 سنة، هذا لا يعني ابتداء إن الملكية كانت مستقرة جداً، لكن استقرارها بالتأكيد كان أقوى من الوهن الذي حدث بعد سنة 1985، الذي تلاه حدث 1963 وصعود عبدالسلام عارف والفصيل السياسي الذي تضارب معه، ثم بمد عصره عبد أخيه الأكبر عبدالرحمن، ثم الفترة الممتدة من 1968 - 2003.
هذا المقال ليس سرداً و لا اختصار تاريخ، بل هذا الاستعراض الابتدائي وثيق الارتباط بما حصل لاحقاً وقد يتكرر بسبب عدم فهم نجاح السياسة ومستمرها لضمان الاستقرار الإيجابي، اجتماعياً واقتصادياً وأمنياً، فتكون الدول عندها بعيدة عن المخاطر الداخلية والإقليمية والدولية.
لقد تركزت فكرة الحكم في المملكة العراقية على نقاط متباينة بين القوة والضعف و بين الصواب والخطأ، و قبلها تصارع المصالح، فالذين حاربوا الملك بحجة أنه ليس عراقياً، أغفلوا أنهم طلبوا من البريطانيين ملكاً عربياً مسلماً، وهذا الإطلاق انطبق على فيصل وعلى غيره، كما أنهم لم يدركوا قوة بريطانيا أو ربما أحسوا بذلك يوم وصلوا معها للتصادم.
بل حتى إن قضية الدفاع عن الدولة العثمانية- وهي قضية يحكم عليها بموجب وعي تلك الفترة- لم تكن فكرة موفقة، إذ إن العثمانيين ليسوا إلا مدافعين من مصالحهم كالعادة في أي دولة ذات قوة ونفوذ وتأثير، ولربما وبسبب مبكرية الوعي العراقي يومها، كان صعباً تقبل زوال دولة مع مشترك عقائدي لصالح دولة ذات هوية دينية مغايرة، دون أن يدخل في حساب الرافضين مراجعة احتياجات العراق، وأبرزها هوية وطنية جامعة بدل الانقسام المجتمعي.
الطموح للتسلط وعدم إيجاد آليات حكم تعكس فهم السياسة، ازدادت في الجمهوريات العسكرية، عبد الكريم والأخوين عارف وأحمد حسن البكر، كلهم ضباط، وكلهم ضباط تخرجوا خلال الفترة الملكية، وكلهم بخلفيات سياسية بسيطة نوعا ما، وكلهم عانوا خلال حكمهم من عدم الاستقرار، وواجهوا محاولات انقلابية ضدهم.
هذا الأمر يقدم إثباتات عدة، أهمها: إن الوصول للسلطة بطريقة مشرعنة بالدعاية وهي في حقيقتها ليست أكثر من انقلاب، تفتح باب حق للآخرين لتكرار الفعل، وقبل ذلك، عدم إرساء دعامات حقيقية عاملة لإقامة حكم رشيد، وأعتقد شخصياً إن من يقوم بالقفز على السلطة نادرا جداً أن يكون ضمن فهمه أو وعيه أو عمله إقامة حكم رشيد، ففاقد الشيء لا يعطيه كما يعبر عنه قانوناً.
منذ مجيء الفكر السياسي و الحزبي للعراق الحديث مبكراً، كانت بعض القوى الوطنية تطرح على الجمهور و للرأي العام نواقص فكر السلطة، و لم تلقى حاكماً مصغياً.
وأكاد أقول إن المماطلة الطويلة، و البطش الأمني، دفعا الطرفين للمواجهة دوماً، ودفع بالأغلبية الشعبية للخوف من السلطة وعدم الثقة بها، لذلك كانت ردود الحزن على زوال أي منها ردوداً فئوية أو بسبب ضياع مصالح.
بعد 2003 تم إنتاج معادلة حكم بعد حرب حاسمة خاصتها الولايات المتحدة ضد النظام. لكن المعادلة ونظرية الفوضى الخلّاقة أنتجت نموذجاً غير موفق، فلقد تفجرت صراعات مكتومة وتاريخية السند، حالت وأخّرت معالجة جراح قديمة و فتحت جراحاً أكبر.
ثمة معادلة حيوية بدون تفعيلها فلا رجاء يحمل خيراً، معادلة مجتمعية، تنتج هوية وطنية جامعة قوية، هوية مواطن يعرف حقوقه فيأخذها بيسر و واجباته فيؤديها بأمانة و تلقائية، وهي نفس الهوية التي تشترك فيها السلطات وتفعل ما يفعل مواطنها، ليست منعزلة عنه ولا غاشة له ولا ساطية على ثرواته.
أخيراً ومع طلب الحكومة العراقية إنهاء عمل بعثة يونامي في العراق، فالأسئلة الواقعية التي تجدها مع إجابتها في الشارع بعيداً عن كل تزويق: هل أنجز المكلفون بالعمل ما صحح مسار الحكم ومسيرة المجتمع؟
الملك فيصل الأول (مواقع التواصل)