حين نبحث عن ذواتنا في الآخرين.. التعلّق في جوهره يعني ربط شيء بشيء آخر بغرض تحقيق شعور بالأمان أو السعادة، كأن يقول أحدهم: "حياتي متعلقة بوجود شخصٍ ما، وغيابه كارثة بالنسبة لي". لكن في الحقيقة، هذا النوع من التعلق ليس حبًا، بل هو حالة نفسية غير متوازنة تجعل الفرد يربط وجوده وراحته النفسية بالآخرين، بدلاً من أن يجدها في ذاته.
كلما انحرفت العلاقات عن مسارها الطبيعي من ارتباط صحي إلى ارتباط غير صحي، نتج عنها نوع من الاضطراب النفسي والعاطفي. وهنا نتحدث عن التعلّق المرضي، وهو نوع من الارتباط المفرط الذي يجعل صاحبه يعيش في قلقٍ دائم، خوفًا من الفقد أو الرفض أو الهجر.
تختلف أسباب التعلق المرضي من شخص إلى آخر تبعًا للفروق الفردية، والفروق العمرية، والتجارب الحياتية، وطبيعة التنشئة الاجتماعية. وغالبًا ما تبدأ جذوره في مرحلة الطفولة نتيجة الحرمان العاطفي، أو فقدان أحد الأشخاص المقربين، أو ضعف التقدير الذاتي، فينشأ الفرد باحثًا عمّا فقده في علاقاته المستقبلية.
الأشخاص الذين يعانون من هذا النوع من التعلق يعيشون غالبًا بين الخوف من الوحدة والقلق من الفقد، فيتعلقون بالآخرين لا بدافع الحب الحقيقي، بل بدافع الحاجة إلى الأمان.
ومن خلال خبرتي الإكلينيكية، لاحظت وجود علاقة قوية بين التعلق المرضي وبعض الاضطرابات النفسية والمشاكل الجسدية، فيما يُعرف بالأمراض الجسد-نفسية (Psychosomatic Disorders).
ففي بعض الحالات التي استقبلتها، كان السبب العميق وراء معاناة المريض من القولون العصبي، أو الارتجاع المعدي المريئي، أو الوسواس القهري، أو اضطرابات الهضم هو حالة تعلق مرضي.
ومن بين الحالات، كانت هناك امرأة في الثلاثين من عمرها تصف حالتها بقولها: "لو غاب عني أشعر أني مخنوقة ولا أستطيع أن أفرح أو أستمتع بالحياة". وبعد جلسات علاجية وإرشادية منتظمة، بدأت تدرك أن وجوده في حياتها كان مؤقتًا، وأن الطرف المقابل كان يرى العلاقة سطحية، بينما هي ربطت سعادتها بوجوده. واليوم نعمل على تخفيف شدة التعلق وآثاره المرضية.
رحلة التحرر من التعلق ليست سهلة، لكنها ممكنة. تبدأ حين يقرر الفرد أن يغيّر الرواية المسيطرة على تفكيره، وأن يبحث عن حلولٍ بديلة بدافع التغيير الحقيقي، لا الهروب المؤقت. الأمر يشبه المرض الجسدي؛ فكما لا يُعالج التهاب الكلى بالمسكنات، كذلك لا يُعالج الألم النفسي بتجاهله أو بتسكينه بأوهام التواصل أو الذكريات.
من الأخطاء الشائعة في هذه المرحلة الاستماع إلى الأغاني الحزينة، أو الاحتفاظ بأغراض تذكّر بالشخص المتعلق به، أو محاولة التواصل معه من جديد، لأن ذلك يفتح الجرح بدلاً من شفائه.
يُنصح دائمًا باستشارة مختص نفسي لتفادي الأعراض الانسحابية أو الانتكاسة العاطفية، فالعلاج النفسي يساعد على إعادة التوازن، وإعادة توجيه الطاقة نحو الذات.
ومن المهم أن نفهم أن التعلق الصحي يعزز العلاقة، بينما التعلق المرضي يدمرها. فالتعلق الصحي يقوم على التوازن بين الأخذ والعطاء، وعلى احترام الحدود الشخصية، والشعور بالتقدير والقبول كما نحن، أما التعلق المرضي فيجعل العلاقة قائمة على الخوف، لا على المودة.
وأخيرًا، لا تتردد في طلب العلاج والدعم النفسي، فالدعم النفسي المهني يغيّر حياتك نحو الأفضل ويحسن جودة الحياة لديك. وكما أكرر دائمًا:
"الاعتراف بمعاناتنا النفسية ليس ضعفًا، بل هو أول خطوة في طريق القوة والتعافي".
رحلة التحرر من التعلق ليست سهلة (الجبال)