لو أُجري استفتاءٌ ما في العراق اليوم، لوجدنا أن كثيراً من العراقيين يؤيدون "الحلول الجذرية" التي قد تأتي عن طريق انقلابٍ عسكري، أو تدخلٍ عسكريٍّ خارجي، لأن هناك شعوراً عاماً بصعوبة تغيير الأوضاع السلبية من خلال الآليات المؤسسية والديمقراطية المعمول بها حالياً.
هذا المزاج، في الحقيقة، هو ما كان وراء قبول التحولات الراديكالية في مختلف محطات التاريخ العراقي، على الأقل منذ انقلاب بكر صدقي عام 1936، الذي يُعدّ أول انقلاب عسكري في المنطقة العربية كلّها.
ومع كلّ انقلاب أو تحوّلٍ عنيف، تتصاعد المشاعر والعواطف، ويتفاءل كثيرون، ثم سرعان ما تنتهي الفورة الانفعالية إلى واقعٍ أكثر سوءاً وتعقيداً مما كان عليه سابقاً. ولكن، هل يتعلّم العراقي؟!
بعد كلّ نكبة، تميل تفسيرات نسبة كبيرة من المواطنين إلى أن التحوّل العنيف لم يكن جيّداً، وأننا بحاجة إلى "تحوّلٍ آخر" جيّد، لا إلى نقض فكرة التحوّل العنيف والانقلاب والثورة من أساسها.
ينتظر كثيرون، على الأقل منذ بداية هذا العام الذي نقترب من ختامه، تلك الضربات الماحقة الساحقة التي ستوجّهها الولايات المتحدة الأميركية إلى الميليشيات في العراق، وكأن الميليشيات العراقية مجرّد جسمٍ معزول، وليست شبكةً من القوى والمصالح والنفوذ، المتداخلة مع السياسات الأمنية والعسكرية، على نحوٍ يصعب معه فصلها عن جسد الدولة نفسه.
ماذا لو قامت أميركا باغتيال قائمة "الخمسين اسماً" المتداولة في وسائل التواصل الاجتماعي، وضربت معسكرات الميليشيات ومخازن أسلحتها في ليلةٍ ظلماء واحدة؟ هل سيكون العراق، في صباح اليوم التالي، بخير؟!.
تؤكد كثير من التقارير أن ردّة الفعل الأولى لمثل هذا الحدث الافتراضي ستكون الفوضى على مختلف الأصعدة، وليس أقلّها في الملف الأمني، إضافةً إلى اختلال خريطة القوى وتوازنات الضغط فيما بينها، بما يحفّز خصوماً على محاولة ملء الفراغ بسرعة، بما يخلق دائرة صراعات جديدة.
إن الهدوء والاستقرار لن يتحققا بعد هذا السيناريو بسرعة، لأسبابٍ كثيرة، منها أن سلطة الدولة غير مكتملة، وأن القدرة على فرض القانون في الشارع يشوبها نقصٌ واضح، خصوصاً مع تغلغل العديد من الشخصيات الميليشياوية، أو الموالية للميليشيات، في مؤسسات الدولة، خارج البنية التنظيمية للميليشيات نفسها.
إن أميركا، حتى ساعتنا هذه، غير معنية بسحب الصلاحيات الأمنية من جماعات تعمل تحت مظلة الحشد الشعبي، وتنتشر في مناطق شمالي وغربي بغداد، وتدير مساحات شاسعة من الحدود المشتركة مع سوريا والأردن، بالتعاون مع الجيش والشرطة الاتحادية وجهاز مكافحة الإرهاب.
هذا الانتشار ليس مجرّد توزيعٍ روتيني للقطعات، بل يعكس تصوّراً بُني منذ ما بعد عام 2015 عن عقيدة الأمن العراقي، حيث لم تعد الفصائل مجرّد قوةٍ ساندة، بل شريكاً في القرار الأمني.
في محيط العاصمة، وتحديداً في شمالها وغربها، يمسك الحشد الشعبي بمناطق مثل الطارمية وأبو غريب، التي كانت تاريخياً بواباتٍ للتهديدات الأمنية، وتخضع اليوم لرقابةٍ أمنية مكثفة من قبل هذه الفصائل. وهذا الوجود يجعل الحشد المتحكم الفعلي في أمن مداخل بغداد ومخارجها، وهو نفوذٌ يتجاوز البعد العسكري إلى البعد السياسي والاستراتيجي.
أما في الغرب، وتحديداً على الشريط الحدودي مع سوريا والأردن، فالحشد الشعبي لا يقوم هنا فقط بمهام حرس الحدود التقليدية، بل يهيمن على مساحات واسعة من الصحراء.
ورغم أن هذا الانتشار يتم بروتوكولياً تحت مظلة قيادة العمليات المشتركة، وبالتعاون مع الجيش والشرطة الاتحادية وجهاز مكافحة الإرهاب، فإن الواقع الميداني يفرض نوعاً من "تقاسم الأدوار"؛ فبينما يمسك الجيش والشرطة بمراكز المدن والمنافذ الرسمية، يتولى الحشد مهمة مسك الأرض في المناطق الوعرة والمفتوحة، متمتعاً باستقلاليةٍ عملياتية كبيرة.
إن الطريق المتّبع اليوم لإحداث تغييرٍ في العراق هو استمرار الضغط على الميليشيات والواجهات السياسية التابعة لها، لإجبارها على إحداث التغيير. وقد لا تكون النتيجة المرجوّة قريبة، ولا تحقق كلّ "الطموح الثوري" لدى فئةٍ كبيرة من العراقيين في تصوّرهم للتغيير، لكن هذه هي الصورة كما تبدو اليوم.
(تعبيرية/ مواقع التواصل)