الموت السياسي القادم في العراق

الموت السياسي القادم في العراق (أرشيف الاحتجاجات)

ونحن على مسافةٍ أقل من شهرٍ من الانتخابات البرلمانية، أصبح من الواضح لكلّ مراقبٍ أنّ القوى السياسية الفاعلة والمؤثّرة استخدمت مفوضيّة الانتخابات والقضاء أداةً في إقصاء الخصوم ابتداءً، ومنعهم من الدخول في السباق الانتخابي، بما يشبه مجلس تشخيص مصلحة النظام في إيران، الذي يتحكّم بطريقةٍ مزاجيّة وغير ديمقراطية فيمن يحقّ له الدخول إلى الانتخابات، بما يجعل مخرجاتها منسجمةً مع رؤية السلطة الحاكمة.

 

المشكلة الأعمق أنّنا، وبعد حوالي خمس سنواتٍ على أكبر تظاهراتٍ احتجاجيةٍ في تاريخ العراق، والتي كانت أشبه بالتصويت الشعبي على انتهاء صلاحية النظام السياسي وضرورة الإصلاح الجذري والتغيير، لم يفهم أقطاب النظام السياسي الرسالة جيداً، وبدلاً من فسح المجال لتجديد الدماء وتعزيز شرعية النظام وكسب ودّ المعارضين والناقمين وإدماجهم في العملية السياسية، يتراجع النظام الحاكم لينطوي على نفسه أكثر، مانعاً أي إمكانيةٍ للتغيير، وحاجباً أي فرصةٍ لتعديل المسارات السياسية والاقتصادية والأمنية في بلدٍ يركل مشاكله الكبرى بقدميه إلى الأمام ولا يعالجها.

 

بانتفاء وجود عتبةٍ أدنى للمصوّتين تسقط العملية الانتخابية، فإنّ القوى السياسية الفاعلة لا تحتاج إلا جمهورها المحدود، ولا تريد مزاحمة جمهورٍ آخر يمكن أن يتشجّع على الانتخابات ويغرق الصناديق ببطاقاته. ولذلك، وعلى عكس كل الدعايات الانتخابية أو تصريحات زعماء الكتل والأحزاب، فإنهم سعداء بحالة العزوف العامّة، لأنها تُخلي الساحة لجمهورهم الخاص فقط. لذلك من المتوقّع أن يُعاد مشهد انتخابات 2021 من جديد، ونرى القوى نفسها وقد حصلت على حجومٍ متقاربة، مع حيازة رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني على الموقع الذي كان يشغله الصدر في انتخابات 2021، أي صاحب المقاعد الأعلى. ولهذا تعمد قوى الإطار التنسيقي المعارضة للسوداني، منذ الآن، إلى ترتيب سياسةِ مواجهةٍ لحرمانه من تجديد ولايةٍ ثانية.

 

لقد أنقذت قوى الإطار الشيعي نفسها بصعوبةٍ بعد فوز الصدر من مصيرٍ كانت ذاهبةً إليه، وكان لإيران ونفوذها دورٌ بارزٌ في هذا الإنقاذ. أمّا اليوم، ومع تراجع قوّة إيران في المنطقة وانشغالها بمشكلاتها الداخلية ومواجهاتها مع العالم، فلن تكون بذات التأثير، و ﴿الْمَوْتُ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾.

 

إنّ "الموت" هنا يمكن تسميته؛ الإكراهات التي تفرضها الدولة الريعية على النظام الديمقراطي في بلدٍ متخلّفٍ لا يملك تقاليد سياسيةً ديمقراطيةً طويلة.

 

في هكذا دولةٍ، فإنّ صاحب القرار التنفيذي الأعلى يستطيع تدوير نفسه في السلطة، إمّا بشكلٍ مباشرٍ من خلال إعادة الانتخاب لمنصب رئاسة الوزراء، أو بدور "صانع الملوك"، فيكون رئيساً لحزبٍ أو كتلةٍ برلمانيةٍ تُخرج إلى العلن "دميةً" لرئيس وزراءٍ ينفّذ من الكواليس سياساتِ صانع الملوك.

 

حدثت مقدماتٌ لدورٍ مماثلٍ مع نوري المالكي في ولايتيه (20 أيار/مايو 2006 إلى 20 أيار/مايو 2010)، ونجحت القوى الشيعية في قطع الطريق عليه لاحقاً، ولكنها اليوم لا تملك هذه القدرة مع السوداني.

 

المشكلة الكبيرة أنّ العملية السياسية بدأت في 2003 مع مجموعة أحزابٍ شيعيةٍ قليلةٍ، متمايزةٍ فيما بينها: إسلاميةٍ مقرّبةٍ من إيران، وإسلاميةٍ عراقية، وليبراليةٍ وشبه ليبرالية، بالإضافة إلى دخول الشيعة في قوى وطنيةٍ خالصة. لكننا اليوم أمام عددٍ كبيرٍ من القوى السياسية المتشابهة، والمتصارعة فيما بينها على الريع، لا بسبب اختلاف التوجّهات الفكرية. والمنطق يفترض أن تتّحد الأحزاب المتشابهة، كما حصل مثلاً في ألمانيا الديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية، حيث بدأت بـ 35 حزباً لتنتهي ألمانيا اليوم بخمسة أحزابٍ فقط. والتجربة نفسها تكرّرت في إيطاليا وفرنسا واليابان.

 

لكننا، على العكس، نشهد مع تقدّم الزمن انشطاراً وتكاثراً في الأحزاب، لأنها في الحقيقة ليست أحزاباً، وإنما دكاكين سياسية تتمحور حول شخصياتٍ تريد حصّةً أكبر من الريع.

 

الموت الذي تفرّ منه الأحزاب الشيعية و"سيلاقيها" هو قدرة رئيس الوزراء على قطع التمويل عن الأحزاب المنافسة، والتي يقوم عمادها على الريع، لا على اشتراكات المؤيدين، فيجبرها على الاندماج معه، أو تجميع مواردها لتكوين أحزابٍ معارضةٍ كبيرة.

 

هذه نتيجة محتملة قد تعني ترشيقاً سياسياً ضرورياً لتقليل الآكلين على مائدة المال العام، وقد تعني، من جهة أخرى، ولادة سلطة استبدادية، ستروّض النظام الديمقراطي من الداخل، ولكن؛ هذه إكراهات الريع!


أحمد سعداوي كاتب وروائي

نُشرت في الجمعة 10 أكتوبر 2025 09:17 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية

© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.