بقاء العراق مرهون بإعادة ضبط التحالف الكوردي - الشيعي

بقاء العراق مرهون بإعادة ضبط التحالف الكوردي - الشيعي التوافق الكوردي الداخلي يظل شرطاً أساسياً لتعزيز دورهم في العاصمة (تعبيرية/ مواقع التواصل)

يمرّ العراق اليوم بمنعطف تاريخي حرج، ومن أجل ضمان بقائه على المديين المتوسط والبعيد، فإنه يحتاج إلى عملية "إعادة ضبط" جوهرية. هذه الخطوة لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال إحياء التحالف الكوردي - الشيعي كعلاقة سياسية محورية تضمن ديمومة نظام ما بعد عام 2003، خاصة في ظل مناخ إقليمي عاصف يهدد الترتيبات السياسية الحالية في البلاد.

 

جذور الخلاف وتراكمات العقد الماضي

لقد اتسعت الفجوة بين الشيعة والكورد بشكل ملحوظ خلال العقد الماضي؛ فمن جهة، طورت شريحة واسعة من الطبقة السياسية الشيعية شعوراً بـ "الاستعلاء" منذ عام 2017، معتقدين أنهم حسموا المعركة وأحكموا السيطرة النهائية على الدولة العراقية. ويرى الكثير منهم أن هذه الهيمنة مبررة تاريخياً، بحجة أن الشيعة حُرموا من السلطة منذ تأسيس الدولة حين نَصّب البريطانيون ملكاً سنياً واعتمدوا على طبقة ضباط موروثة من العهد العثماني.

 

ومن جهة أخرى، نجد أن نواة القوة الكوردية — وتحديداً الحزب الديمقراطي الكوردستاني — قد ازدادت اغتراباً عن بغداد منذ محاولة الاستقلال غير الناجحة في 2017. ورغم سعي منافسه، الاتحاد الوطني الكوردستاني، للحفاظ على علاقات وثيقة مع الفصائل الشيعية، إلا أن ذلك لم يُترجم إلى دور كوردي حقيقي في صنع القرار في بغداد. إن تباين استراتيجيات وأهداف الحزبين الكورديين خلال العقد الماضي أدى إلى إضعاف الموقف الكوردي العام، مما جعل حضورهم في بغداد شكلياً يفتقر إلى الشراكة الفعلية في الحكم؛ ورغم شغل الكورد لمناصب اتحادية رفيعة، بما في ذلك رئاسة الجمهورية من قبل شخصيات في الاتحاد الوطني، إلا أنها لم تكن فعالة في تأمين نفوذ كوردي حقيقي في الشؤون العراقية بعد عام 2010. ومما لا شك فيه أن التوافق الكوردي الداخلي يظل شرطاً أساسياً لتعزيز دورهم في العاصمة.

 

الأهمية التاريخية للتحالف

إن تدهور العلاقات الكوردية - الشيعية يبعث على القلق بشكل خاص لكون الطرفين هما العمود الفقري للمعارضة العراقية ما قبل 2003. فمنذ نشأة الدولة في 1923، هيمن العرب السنة على السلطة، مما جعل المجتمعات الشيعية والكوردية تشعر بالاغتراب عن الدولة. وقد مَثّل إسقاط نظام صدام حسين في 2003 قطيعة تاريخية مع ذلك النظام، مما عكس الموازين ورفع الشيعة والكورد إلى قمة الهرم السياسي. ومع ذلك، من المهم إدراك أن دولة ما بعد 2003 لم يكن من الممكن بناؤها، ولم يكن للأحزاب الشيعية أن تحكم بمفردها بشرعية، دون المشاركة الكوردية، خاصة في ظل المعارضة السنية الواسعة والعداء من الجوار الإقليمي ذي الأغلبية السنية.

 

نقاط التوتر والأزمات المتلاحقة

بدأت التوترات تطفو على السطح في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما فسر رئيس الوزراء آنذاك، نوري المالكي، الدعم الأميركي كضوء أخضر لمركزة السلطة في جميع أنحاء العراق، بما في ذلك إقليم كوردستان والمناطق المتنازع عليها التي نصت المادة 140 من الدستور على تسوية وضعها. ومنذ ذلك الحين، استمرت الخلافات حول نطاق الحكم الذاتي الكوردي، والسيطرة على الموارد الطبيعية، والتهميش المستمر للكورد في بغداد، فضلاً عن الهجمات الدورية من قبل فصائل مسلحة مدعومة من إيران، في تسميم العلاقات. ومن جانبها، بدأت الأحزاب الشيعية — خاصة بعد عام 2010 — تنظر إلى الأكراد، والحزب الديمقراطي الكوردستاني تحديداً، بعين الريبة، وتتهمهم بالمطالبة بـ "الكثير" أو بالتواطؤ مع أطراف داخلية وخارجية لتقويض الهيمنة الشيعية، وسط قائمة طويلة من المظالم المتبادلة بين الطرفين.

 

التحولات الإقليمية والضغوط الاقتصادية

يعيش الشرق الأوسط حالياً تحولات كبرى؛ فخلال العقد ونصف الماضي، اعتبر الشيعة العراقيون إيران ظهيراً وحامياً لهم، حيث اندمجت الأجزاء التي يسيطر عليها الشيعة في العراق عملياً ضمن المحور الإقليمي الذي تقوده إيران. لكن هذا المحور يواجه ضعفاً شديداً الآن، إذ أحدث سقوط نظام الأسد في سوريا — وهو النتيجة التي حاولت الدولة العراقية التي يهيمن عليها الشيعة منعها لـ 14 عاماً — صدمة في بغداد. وفي الوقت ذاته، تصاعدت حدة الخطاب الأميركي ضد الفصائل الشيعية الموالية لإيران بشكل غير مسبوق، مع دعوات لنزع سلاحها وتفكيكها، مما يهدد الهيمنة الشيعية على الدولة.

 

وعلى الصعيد الاقتصادي، فإن هبوط أسعار النفط بنحو 20 دولاراً بين أوائل وأواخر عام 2025 سيضع ضغوطاً هائلة على قدرة العراق على دفع رواتب نحو 10 ملايين شخص، مما قد يؤدي لتآكل شرعية الحكومة وانهيار العلاقة بين الدولة والمجتمع. وكل هذه العوامل تثير حالة من القلق والذعر بين النخب الشيعية حول مستقبل حكمهم ومكانة مكونهم في السياسة العراقية والإقليمية، ووصل هذا القلق ذروته مطلع هذا العام ببروز دعوات لإقامة دولة شيعية مستقلة.

 

خريطة الطريق نحو "اتفاق استراتيجي"

يجب على الكورد والشيعة إدراك أن عدم الاستقرار الداخلي أو انهيار النظام الحالي سيعيد صياغة المشهد بطريقة تضر بمصالح الطرفين وتخدم أطرافاً إقليمية تسعى للعودة بالعراق إلى عهود ما قبل 2003. ومن الخطأ تصور أن الجانب الكوردي قد يربح من هذا الانهيار. لذا، فإن التوصل إلى اتفاق استراتيجي حقيقي وشامل بين الفصائل الكوردية والشيعية الأساسية يعد أمراً ضرورياً لحماية صمود العراق؛ وهذا يتطلب احتراماً أكبر للحكم الذاتي في كوردستان، بما في ذلك إدارة الطاقة، والتراجع عن القرارات القضائية الجائرة ضد الإقليم، وتأمين حصة مالية ثابتة وغير منقطعة، والوصول لإطار تفاوضي للإدارة المشتركة للمناطق المتنازع عليها. وهذا المسار يمثل عملياً نظاماً "كونفدرالياً" حتى وإن لم يُسمَّ بذلك، وهو توجه تلمح إليه روح الدستور العراقي كدولة ثنائية القومية.

 

المكون السني والإصلاح الداخلي

في المقابل، يتعين على الكورد الالتزام ببقاء الدولة العراقية، ووضع قوات البيشمركة في خدمة الدفاع عن البلاد ضد التهديدات الجهادية. إن الشراكة الحقيقية داخل العراق ستسمح للأكراد بتعزيز مكانتهم وتقوية العراق في آن واحد، ولعب دور في تحسين صورة الدولة دولياً. ومع ذلك، يجب ألا يأتي هذا التمكين الكوردي على حساب استقرار البيت الشيعي. كما لا ينبغي أن يُفهم هذا التحالف كإقصاء للعرب السنة، الذين يظلون مكوناً أساسياً، بل يجب ضمان تمثيلهم العادل واحترام حكمهم الذاتي وتوزيع الإيرادات بعدالة وتقليص وجود قوات الحشد الشعبي في مناطقهم لمنع تجدد شعورهم بالاغتراب.

 

إن هذا التحالف المقترح ليس دعماً للفساد القائم أو سوء الإدارة، بل هو ضرورة لتحقيق استقرار يتطلب إصلاحات اقتصادية وأمنية جدية قبل فوات الأوان. ما أطرحه هنا هو ترتيب "ربح للجميع"؛ ورغم صعوبة التفاصيل، إلا أن الرغبة في الاستقرار الدائم يجب أن تكون المحرك الأساسي. ومع ظهور بوادر إيجابية في احترام الحقوق المتبادلة للمكونات بعد انتخابات نوفمبر، يجب اغتنام هذا الزخم لبناء عقد سياسي أكثر مرونة يخدم الكورد والشيعة والسنة والدولة العراقية ككل.


محمد أ. صالح زميل أقدم غير مقيم بـ (معهد أبحاث السياسة الخارجية) في فيلادلفيا بالولايات المتحدة، وباحث ومستشار مستقل. حاصل على شهادة دكتوراه من جامعة (بنسلفانيا)، وله كتابات واسعة عن الشؤون العراقية والكوردية والإقليمية.

نُشرت في الاثنين 22 ديسمبر 2025 11:55 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية

© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.