بالتزامن مع الانتخابات البرلمانية العراقية، شاهد العراقيون إعلان فوز المرشّح الديمقراطي زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك، المدينة الأهم في الولايات المتحدة الأميركية، والتي تُعدّ عاصمة الاقتصاد ومركز الإعلام والمؤسسات الدولية. وعلى الرغم من أن المنصب خدمي، إلا أنه يُقرأ عادةً ضمن سياق النفوذ السياسي في أميركا.
في التحليل، وعلى الرغم من تشابك الدلالات السياسية والعرقية والدينية في هوية زهران ممداني، فإنه لم يتكئ عليها، بل قدّم نفسه صاحب حلول لمشكلاتٍ يومية يعاني منها سكّان نيويورك. وسيكون المحكّ في نجاحه، ومن ثمّ ارتقائه في المناصب اللاحقة، هو قدرته على حلّ هذه المشكلات لا تغطيتها بالشعارات والخطب الرنّانة.
تفاجأ كثيرٌ من العراقيين بإعلان ممداني أنه شيعيّ على المذهب الاثني عشري، وربما بحث آخرون عن صدى هذا الانتماء في نشاطه السياسي، لكنهم لن يعثروا على شيء. فهناك فرقٌ بين الاعتراف (والاعتزاز) بمصادر الهوية الشخصية، وبين أن تجعلها منطلقاً لعملك السياسي أو الاجتماعي.
العامل الحاسم في هذه القضية هو الفردانية التي يتمتّع بها المواطن الأميركي، شأنه شأن مواطني الدول المتقدّمة في أوروبا وآسيا. فلا تعويل هناك على الهوية الجماعية الموروثة إلا في بعض الممارسات الدينية أو الاجتماعية المحدودة، كالأعياد ومناسبات الزواج والوفاة.
في مجتمعات الفردانية، يكون الإنسان محترماً ومقدّراً وناجحاً بقدر ما يقدّمه من خدمات وأعمال لنفسه ولمجتمعه، لا بسبب ولادته صدفةً ضمن طائفةٍ منتصرة أو عِرقٍ متفوّق، هذه المعضلة التي ما تزال منطقتنا تغرق فيها للأسف.
تتصارع في أميركا اتجاهات سياسية عديدة تحت مظلّة الحزبين الكبيرين، الجمهوري والديمقراطي. ففي كل حزبٍ أجنحة معتدلة وأخرى يمينية أو يسارية. ويصنّف ممداني نفسه ضمن الجناح اليساري للحزب الديمقراطي، تماماً كما يُعدّ دونالد ترامب من اليمين المحافظ في الحزب الجمهوري.
غير أن ما يجعل الديمقراطية الأميركية حيّة هو أن هذه المحدّدات الأيديولوجية لا تضمن مساراً مطمئناً للسياسي، بل المحكّ الحقيقي هو مقدار ما يفي به من وعوده الانتخابية، وقدرته على تقديم الخدمات لا الشعارات.
ولا يحتاج هذا المبدأ إلى مجتمعاتٍ عريقة في الديمقراطية؛ ففي التجربة العراقية، على سبيل المثال، توصّل المجتمع، بمختلف خلفياته، إلى قناعةٍ مماثلة منذ انتخابات 2010، حين تراجع الاهتمام بالشعارات الأيديولوجية والطائفية. غير أن النخبة السياسية لم تدرك هذا التحوّل في المزاج العام، ففسّرت فوز "القائمة العراقية" بزعامة إياد علاوي على أنه مؤامرة خارجية، لا تغيّراً في رأي الشارع، وخصوصاً الشارع الشيعي الذي اعتاد التصويت للأحزاب الإسلامية.
وعلى مدى ستّ دوراتٍ برلمانية، ظلّت النخب السياسية مصمّمة على إعادة تعبئة الشارع طائفياً وأيديولوجياً، بل ثمة مؤشرات تُعزّز فرضية أنها افتعلت أحياناً قضايا طائفية لتأجيج الشارع لأغراضٍ انتخابية. لكنها لم تفهم أنها كانت تخسر من رصيدها شيئاً فشيئاً، وهو ما تعكسه مؤشرات انخفاض الإقبال على التصويت مع كل دورةٍ جديدة.
من المتوقّع أن يكون التصويت في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2025 هو الأضعف منذ 2005، ومع ذلك تُصرّ الأحزاب الحاكمة على العزف على الوتر الطائفي، محذّرةً من أن السلطة "قد تذهب من يد الشيعة"، كما صرّحت شخصياتٌ سياسية في الشهر الماضي. بينما يدرك الجمهور أن السلطة لم تكن يوماً للشيعة أو السنّة، بل هي لنخبةٍ صغيرةٍ حاكمةٍ ودائرةٍ ضيّقةٍ من المنتفعين حولها.
ما يجب على النخب السياسية، من مختلف الخلفيات الطائفية والعرقية، أن تدركه، بما في ذلك النخب العلمانية والمدنية، هو أن الأيديولوجيا لم تعد قادرة على تحشيد الناس سياسياً، وأن بناء الثقة مع المواطن يبدأ من الاتصال بمصالحه الحيوية وحاجاته اليومية، تماماً كما فعل زهران ممداني في دعايته الانتخابية.
(تعبيرية)