الطبيبة بان وأزمة الثقة

الطبيبة بان وأزمة الثقة الطبيبة الراحلة "بان زياد" (أرشيف)

في ردّة فعلٍ فريدة من نوعها، أعرب مجلس القضاء الأعلى العراقي يوم الخميس الماضي (21 آب/أغسطس) عن أسفه لما جرى تداوله من شائعات بشأن حادث وفاة الطبيبة بان زياد طارق في البصرة، رغم صدور توضيح رسمي سابق يوم الإثنين (18 آب/أغسطس) حول طبيعة الوفاة.

 

بدأت القصة منذ العثور على جثة الطبيبة في منزلها بالبصرة يوم 4 آب/أغسطس الجاري، لتتحوّل سريعاً إلى قضيّة رأي عام، ثم لتنتهي، حتى الآن على الأقل، إلى موجة من التشكيك العام بالقضاء العراقي، وما إعلان "الأسف" سوى ردّة فعل تزيد الشكوك أكثر مما تبدّدها.

 

في حوادث مماثلة حول العالم، يكون للرأي العام أثر وضغط هائل، وغالباً ما تؤثّر "المحكمة الشعبية" التي ينصبها الرأي العام عبر وسائل الإعلام أو مواقع التواصل الاجتماعي على موقف القضاء. ويحاول القضاء، باعتباره مؤسسة أساسية من مؤسسات النظام، أن يخوض سجالاً مع هذا الرأي العام، أكثر من الاكتفاء بالاستناد إلى برودة النصوص القانونية والأحكام القضائية. ذلك أن ثقة الناس بالقضاء شرط جوهري لدعم ثقة المواطنين بالدولة نفسها، فالقضاء هو الحاجز الأخير أمام انهيار الدولة وتفككها.

 

كسب ثقة المواطنين لا يتحقق بمجرد إصدار الأحكام، بل بمراعاة الرأي العام، وتعزيز قناعة الناس بأن القضاء في صالحهم في نهاية المطاف، لا أن يكون ذراعاً من أذرع النخب الحاكمة.

 

إن التشكيك بالقضاء أو اتهامه بعدم النزاهة قد يُستَخدم أحياناً كأداة ضغط لتحسين أدائه، لكن لا بديل عن هذه المؤسسة. والرضوخ لأحكام القانون، حتى إن بدت جائرة في نظر قطاع من الجمهور، يظلّ أساساً لقيام المدنية وسلطة الدولة.

 

في المحاورة الشهيرة "كريتو" لأفلاطون، يرى سقراط أن القانون مثل الأبوين، ومن يخرقه أو يهرب من أحكامه إنما يهدم أسس المدنيّة. لذلك رفض سقراط فكرة الهرب خارج أثينا بعد الحكم عليه بالإعدام، قائلاً لتلاميذه:
"
إذا خالفت الحكم وهربت، فأنا أدمّر القانون نفسه، ولن يبقى معنى للعدالة."

 

الأحكام التي يصدرها الرأي العام في القضايا الكبرى ليست بالضرورة دقيقة قانونياً. وتبقى هذه المسافة قائمة دائماً بين ما يراه الجمهور وما يراه القانون. غير أن حكم الرأي العام لا يأتي من فراغ؛ فالناس لا تنجذب إلى قضيّة ما بدافع الإثارة وحدها، بل لأنها تمسّهم شخصياً. إنهم يشعرون بأن الظلم الواقع على ضحية مثل الدكتورة بان زياد يمكن أن يتكرر مع أي منهم.

 

ما أن خرجت هذه القضيّة من حدود الوصف الأولي لطريقة موت الضحيّة، حتى تلاقفها "مؤثّرون" على مواقع التواصل، وحوّلوها إلى أداة في الصراع السياسي، بل وحتى الفكري والأيديولوجي. فهناك قطاع واسع من الجمهور مقتنع بأن الطبيبة قُتلت ولم تنتحر، استناداً إلى ما نُشر من معطيات وشهادات، بينما هناك فئة أقل عدداً ترى أن الحكم النهائي يظل من اختصاص الأجهزة التحقيقية والقضاء، نظراً لحساسية القضية وتداعياتها على سمعة ومصير أفراد آخرين من المحيطين بالضحية.

 

لكن ما سمّم الأجواء فعلاً هو تبنّي طرف سياسي نافذ لرواية "الانتحار" منذ البداية، حتى قبل انتهاء التحقيقات. وحين جاء الحكم القضائي مطابقاً لرواية هذا الطرف، ازداد الشك بأن القضاء واقع تحت الهيمنة السياسية، خصوصاً في بلد تراكمت فيه سوابق مشابهة. ولعلّ تذكير البعض بصورة نور زهير لم يكن إلا استدعاءً ساخرًا لأشهر الأمثلة على تدخل الإرادة السياسية في مسار القضاء العراقي.

 

إن فقدان الثقة الواسع بالقضاء العراقي أمر خطير ومؤسف. ولا سبيل لاستعادة هذه الثقة إلا عبر انفتاحٍ ذكيٍّ على الرأي العام، وأخذ مخاوفه بجدّية، وإبراز نجاحات القضاء في قضايا ينتصر فيها للمواطن ضد أصحاب النفوذ، أيّاً كانوا. وهذا لا يعني أن تستجيب المحكمة دوماً لحكم "المحكمة الشعبية"، فقد يتطابق الرأيان أو يختلفان، لكن ما يضرّ الدولة حقاً هو أن يظهر القضاء باستمرار وكأنه في صفّ الفاعل السياسي، خصوصاً في بلد يعرف جمهوره، عن خبرة ومعايشة، حجم الفساد والخراب الذي يخلّفه هذا الفاعل في السياسة والمجتمع والاقتصاد.

 

أحمد سعداوي كاتب وروائي

نُشرت في الجمعة 22 أغسطس 2025 11:00 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.