لا يمكن القول إن انتخابات 2025، كانت عملية انتخابية حدّدت الأوزان السياسية وانتجت خارطة الحكم للسنوات الأربع المقبلة فحسب، بل محطة لإعادة تفكير كل حزب فائز وخاسر وغير مشارك، بالطريقة التي يسير فيها النظام السياسي والعملية الانتخابية في العراق، وإعادة تعريف مفهوم "الجمهور"، خصوصاً وأن القوى السياسية الحاكمة تغيّر قانون الانتخابات مع كل عملية انتخابية بما ينسجم مع وضعها السياسي، ومع تغير القانون يتغير حجم الجمهور أيضاً، وبالتالي حصة القوى من المقاعد.
واحدة من القضايا التي فرضت نفسها للنقاش هي حقيقة القواعد الجماهيرية التي تمتلكها الأحزاب السياسية، وتغيّر وجهة خيارات الجماهير وفقاً لمتغيرات الوضع السياسي العام، فبعد هزيمة 2021 اعتبرت القوى السياسية داخل الإطار التنسيقي، أن قانون الانتخابات حينها هو السبب بخسارتهم، بينما اعتبرت "النصر" الأخير في الانتخابات الحالية بعدد الأصوات والمقاعد، نتيجة معبرة حقيقية عن إرادة الشعب، في الوقت الذي من المفترض أن هذا الانتصار يجب أن يُحسب بنفس حساب خسارة 2021، فالمؤثر المتغير هنا هو قانون الانتخابات في كلا الحالتين، فإذا كان قانون الانتخابات هو سبب خسارتها في 2021، فقانون الانتخابات الحالي، هو سبب فوزها في 2025، بالتالي النتائج الأخيرة لا تعبر عن حقيقة توسع قاعدتها الجماهيرية، فمن يمتلك قاعدة جماهيرية ثابتة من المفترض أنها لا تتأثر بشكل قانون الانتخابات.
كانت مسألة "الأصوات المهدورة" أحد أكثر القضايا التي قادت الأوساط السياسية والشعبية لنقاش ما بعد الانتخابات، وبصورة أوضح فإن هناك 12 مليون مشارك بالانتخابات، لكن مجموع أصوات الأشخاص الذين فازوا بالمقاعد النيابية يبلغ 3.7 مليون صوت فقط، أي أن أصوات 30% من المشاركين بالانتخابات فقط أصبحت ممثلة داخل البرلمان، بينما 70% من المنتخبين ذهبت أصواتهم دون صعود نائب واحد من خلالها الى البرلمان، وأصبحت مجرد أوراق في صناديق ستُخزن في مخازن المفوضية كإرشيف.
تقود المفارقات الكبيرة في الأرقام وأصوات القوى السياسية إلى المقارنة بعدد المقاعد التي حصلت عليها، وهذه إحدى أبرز المساءل الجدلية التي شغلت الرأي العام، وأبرز مقارنة كانت بين ائتلاف الاعمار والتنمية بقيادة محمد شياع السوداني، والحزب الديمقراطي الكوردستاني بقيادة مسعود بارزاني، حيث حصل السوداني على 46 مقعداً بـ1.3 مليون صوت، ما يعني أن كلفة المقعد الواحد كانت 28 ألف صوت فقط، بينما حصل البارتي على 27 مقعداً فقط بأكثر من مليون صوت ما يعني أن كلفة المقعد الواحد كانت أعلى بكثير وبلغت 37 ألف صوت وبدرجة أقل بالنسبة للقوى السنية حيث بلغ سعر المقعد الواحد 35 ألف صوت، أي أن كلفة المقعد على البارتي والقوى الكوردية عموماً، وكذلك القوى السنية، أغلى بنسبة 32% من كلفة المقعد على ائتلاف الإعمار والتنمية والقوى الشيعية عموماً، بل أن الحزب الديمقراطي الكوردستاني صاحب المليون صوت، حصل على عدد مقاعد مساوٍ لتقدم صاحب الـ945 ألف صوت، ومساوٍ لحركة صادقون صاحبة الـ745 ألف صوت.
السبب الأكبر في هذه المسألة يعود إلى تحديد الكورد وكذلك السنة في دوائر انتخابية عدد مقاعدها أقل من عدد مقاعد محافظات القوى الشيعية، وهذه لوحدها مسألة جدلية تتعلق بالإحصاء السكاني، الذي حدّد عدد سكان العراق دون ذكر الهويات والقوميات التي ستحدد نسبة سكان كل مذهب أو قومية، وبالرغم من أن عدم ذكر المذاهب والقوميات في الإحصاء السكاني تعد خطوة جيدة نحو هوية وطنية عراقية، لكن الواقع التطبيقي السياسي ليس كذلك، ويعتمد على الهويات المذهبية والقومية والدينية في توزيع المقاعد والمناصب السياسية.
على سبيل المثال، يبلغ عدد مقاعد المحافظات والدوائر الانتخابية التي تنافس عليها القوى الشيعية 209 مقاعد من بينها بغداد، فيما يبلغ عدد مقاعد المحافظات والدوائر التي تنافس عليها القوى الكوردية 93 مقعداً فقط، أما القوى السنية فتنافس في محافظات ودوائر انتخابية يبلغ عدد مقاعدها 159 مقعداً، مع الإشارة إلى أن بعض الدوائر التي تتنافس عليها القوى الكوردية والسنية، تدخل فيها القوى الشيعية كمنافسة أيضاً وتحديداً في كركوك والموصل وديالى وصلاح الدين، بينما لا يحدث العكس في الدوائر التي تضم المقاعد الشيعية، فهناك 124 مقعداً مضموناً للقوى الشيعية بالكامل بمختلف مسمياتها وعناوينها في 9 محافظات، كما تنافس القوى الشيعية ذاتها الكورد والسنة في 9 محافظات أخرى على الـ205 مقاعد المتبقية.
لذلك، عندما يأتي الحزب الديمقراطي الكوردستاني بأكثر من مليون صوت، سيأخذ حصة معينة من الـ93 مقعداً بما يناسب أصواته مقارنة بالقوى السياسية الأخرى المنافسة له داخل الدوائر الانتخابية المحددة بهذه الـ93 مقعداً، بغض النظر عن كلفة سعر المقعد في الدوائر الانتخابية الأخرى التي لا تدخل ضمن مساحة الحزب الديمقراطي الكوردستاني ولا ينافس عليها كما في بغداد على سبيل المثال، بينما في بغداد ومحافظات الجنوب سيكون سعر المقعد أقل لأن عدد المقاعد أكبر، فعدد الأصوات البالغة مليون صوت تجلب في بغداد والجنوب 37 مقعداً، بينما تجلب في محافظات إقليم كوردستان المحدودة المقاعد 27 مقعداً فقط، بالرغم من تشابه عدد الأصوات، وهو ما يكشف عن مشكلة كبيرة في التمثيل ويعطي تصوراً زائفاً بشعبية كتلة سياسية معينة دون غيرها بناء على عدد المقاعد، بالرغم من أن عدد الجماهير متساوٍ، ما يجعل الشرعية السياسية "مشوهة".
لذلك يبدو أن الحل الأسلم لهذه المسألة هو أن يكون العراق دائرة انتخابية واحدة، وهو النظام الذي اتبع مرة واحدة في أول انتخابات عام 2005، ثم اتبع نظام كل محافظة دائرة واحدة في 2010 و2014 و2018، ثم اتبع نظام الدوائر المتعددة داخل المحافظات عام 2021 وتسبب بإيجاد 83 دائرة انتخابية، ثم تمت العودة في 2025 إلى كل محافظة دائرة واحدة أي 18 دائرة انتخابية.
عند استخدام كل العراق دائرة انتخابية واحدة، فهذا يعني أن الإعمار والتنمية سيكون الأول بعدد المقاعد، يليه الحزب الديمقراطي الكوردستاني بالحصول على 35 مقعداً تقريباً بدلاً من 27، ثم يليه حزب تقدم الذي حاز حوالي 950 ألف صوت، ثم "صادقون"، وبعدها دولة القانون، وهو ما كان ليغير عدد المقاعد بشكل كبير.
صندوق اقتراع/ أرشيف