في سابقة هي الأولى من نوعها، استعاد المسيحيون في العراق، ولأول مرة منذ سنوات عجاف، جزءاً كبيراً من تمثيلهم الحقيقي في مجلس النواب العراقي. فبعد إعلان النتائج الأولية للانتخابات من قِبَل المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، تمكّن ثلاثة مرشحين مسيحيين مستقلّين، معروفين في الوسط السياسي المسيحي بنشاطهم الحكومي والسياسي والنيابي سابقاً، وغير منتمين إلى أي ميليشيات أو فصائل مسلّحة، من انتزاع مقاعد نيابية من براثن ميليشيا "بابليون" التي يتحكم بها المدعو ريان صادق، أو "ريان الكلداني"، المدرج على قائمة عقوبات وزارة الخزانة الأميركية بسبب ممارسات منافية لحقوق الإنسان وترؤسه لميليشيا تتحكم عنوة بمقدرات الحياة في قرى ومدن المسيحيين في سهل نينوى؛ حيث يفرض سيطرته بالقوة من تلكيف وباطنايا وصولاً إلى الحمدانية (بخديدا / قره قوش).
هذا التحوّل الانتخابي يمثّل ضربة موجعة للقوى التي اغتصبت التمثيل المسيحي لقرابة عقد من الزمن، وجعلت الصوت المسيحي رهينة بيد جهات مسلحة ذات أجندات غير وطنية. اليوم، تحرر ثلاثة من أصل خمسة مقاعد خُصِّصت لكوتا المكوّن المسيحي من نير الميليشيات، وبات من الممكن، إذا ما تم دعم هؤلاء النواب سياسياً وشعبياً، أن يعكسوا صوتاً مسيحيّاً وطنيّاً حقيقيّاً في المعادلة السياسية العراقية القادمة.
الصوت المسيحي الحقيقي، هو دائماً صوت وطني حرّ، ينادي بتعزيز قوة وكفاءة المؤسسات الديمقراطية، وترسيخ السيادة الوطنية، واستقلال القرار الوطني العراقي، ورفض فتح الأبواب أمام التدخّلات الإقليمية والخارجية. إنه صوت يدافع عن دولة قوية بمؤسساتها، لا بسطوة ميليشياتها على قرارها السياسي ومؤسساتها الديمقراطية، الصوت المسيحي دوماً يقف بالضد من جعل الدولة رهينة بيد ميلشيات وفصائل مسلحة تقوض سيادة الدولة.
المسيحيون جذرٌ تاريخي في تربة الرافدين
ينظر المسيحيون في العراق إلى أنفسهم بوصفهم أحفاد الحضارات السومرية والأكدية والآشورية والكلدانية والبابلية والسريانية الآرامية؛ فهم بناة حضارة بلاد الرافدين، وهم ابناء كنيسة المشرق، التي أسست ببشارة القديس الرسول مار توما أحد التلاميذ الاثني عشر للمسيح له المجد ومار إدي ومار ماري، فهم أحفاد كنيسة المشرق التي تعتبر أحد أعرق الكنائس في العالم، التي انطلقت من بلاد الرافدين، وبلغ امتدادها بلاد فارس والأناضول والهند والصين، لذلك يعتبر مسيحيو بلاد الرافدين أنفسهم جذراً تاريخياً موغلاً في القدم وانتماؤهم إلى هذا الوطن ليس انتماءً عابراً أو طارئاً، بل انتماءٌ عضويٌّ متجذّر منذ آلاف السنين. هذا العمق التاريخي يحوّل علاقتهم بالعراق إلى مسؤولية أخلاقية ووطنية تدفعهم إلى بذل الغالي والنفيس من أجل مستقبل أفضل للوطن.
لقد كان المسيحيون، على امتداد تاريخهم الحديث، من أشدّ دعاة بناء الدولة المدنية وسيادة القانون، وممن دائماً ينادون بحصر السلاح بيد الدولة، ممثلة بالمؤسسات التي نصّ عليها الدستور: الجيش، والشرطة، والبيشمركة، وقوات الأمن الداخلي. لم يلجأوا يوماً إلى تشكيل ميليشيات موازية لقوى الدولة الرسمية، ولم يبحثوا عن شرعيةٍ خارج إطار الشرعية الدستورية والقانونية.
تشويه الصورة ومحاولة تغيير هوية سهل نينوى
ما قامت به هذه الميليشيات التي تستخدم جزافاً التسمية المسيحية، ويستخدم رئيسها جزافاً التسمية الكلدانية، هو محاولة ممنهجة لتشويه الصورة الوطنية النقية للمسيحيين في العراق. فقد جرى تجنيد هذه المجموعة لخدمة مشروع تغيير طبيعة وديمغرافية سهل نينوى، وتحويله من موطن تاريخي للمسيحيين إلى ثكنة عسكرية غير مستقرة تخادماً لصالح أجندات خارجية، الأمر الذي أدى إلى هجرة أعداد كبيرة من أبنائه، واستقرار أعداد أخرى في إقليم كوردستان بدل العودة إلى بلداتهم وقراهم في السهل.
ولمدة تقارب العقد من الزمن، ضَخّت هذه الميليشيات عشرات الآلاف من الأصوات غير المسيحية في كل استحقاق انتخابي، لفرض مرشحين تابعين لها كممثلين مزعومين للمسيحيين في مجلس النواب العراقي، ومن خلال ذلك السيطرة أيضاً على المقعد الوزاري المخصص للمسيحيين، وعلى المناصب الحكومية الخاصة بالمكوّن المسيحي، وخاصة رئاسة ديوان أوقاف الديانات المسيحية والإيزيدية والصابئة المندائية وغيرها. غير أن هذا الواقع بدأ يتصدع، وكل المؤشرات تدل على أنّ تغيّرًا حقيقيًّا يلوح في الأفق.
خطوة ذكية وولادة تمثيل مسيحي مختلف
بخطوة سياسية ذكية وحكيمة من قبل المسيحيين وأصدقائهم الحقيقيين في الوطن، تم توحيد الجهود لدعم ثلاثة مرشحين مستقلين بقوة، وهم شخصيات مسيحية معروفة بنشاطها في الخدمة الحكومية والنشاط السياسي وايضاً الخبرة النيابية: السيد كلدو رمزي، والسيد عماد يوخنا، والسيد سامي أوشانا، فحصلوا على المقاعد المسيحية في محافظات أربيل وكركوك ودهوك.
في المقابل، حصل ممثلو الميليشيات على مقعدي نينوى وبغداد من دون منافسة فعلية، بعد أن تم استبعاد جميع المرشحين المنافسين مسبقاً دون أسباب مقنعة، في خطوة تثير الكثير من الشكوك والريبة حول نزاهة العملية الانتخابية في هاتين الدائرتين؛ لأنه لم يكن هنالك منافسون، أي أنه تم منح المقعدين كهدية للمليشيات!.
قوة الدعم الكوردستاني والحلفاء الوطنيين العراقيين
مهمة النواب الثلاثة، السادة كلدو وعماد وسامي، في الدفاع عن حقوق المسيحيين في برلمان يتكون من 329 مقعداً ليست مهمة سهلة، لكنها ليست مستحيلة أيضاً. فهؤلاء ليسوا وحدهم في هذا الميدان، بل لهم حلفاء أقوياء داخل مجلس النواب العراقي.
في مقدمة هؤلاء الحلفاء تأتي كتلة الحزب الديمقراطي الكردستاني التي تعمل تحت قيادة وتوجيهات الرئيس مسعود بارزاني، الصديق التاريخي الثابت والداعم الدائم للمسيحيين في العراق. فقد تجسدت سياسة الرئيس بارزاني في جعل إقليم كوردستان موطناً آمناً للمسيحيين، إلى جانب الأقليات والمكوّنات الأخرى من الإيزيديين والصابئة المندائيين والكاكائيين والزرادشتيين واليهود وغيرهم.
ومنذ أكثر من ثلاثة عقود، تبنّى إقليم كوردستان نموذجاً متقدماً في التعامل مع المكونات الدينية والقومية، من خلال تخصيص مقاعد للمسيحيين في برلمان كوردستان، وضمان تمثيل وزاري دائم لهم وايضاً تمثيل جيد على مستوى المناصب الحكومية المختلفة ودعم افتتاح المدارس الحكومية التي تُدرّس اللغة السريانية، والاهتمام بالثقافة والفنون والأدب السرياني من خلال استحداث المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية والاهتمام بالتراث السرياني من خلال استحداث مديرية التراث السرياني ومتحف التراث السرياني والمساهمة في سنّ قانون يحمي حقوق المكونات، ومنح المئات من قطع الأراضي لبناء الكنائس والأديرة والمؤسسات المسيحية ومنظمات المجتمع المدني وإعمار القرى المسيحية. هذه السياسات الحكيمة جعلت من الإقليم تجربة ديمقراطية فريدة للعيش المشترك واحترام حرية الدين والمعتقد في الشرق الأوسط. ايضاً كان للرئيس مسعود بارزاني دور محوري في تعزيز وضمان تضمين حقوق المكونات غير المسلمة في الدستور العراقي الدائم لعام 2005 وقد ترجمت حكومة إقليم كوردستان هذه رؤية الرئيس عمليّاً، فبهذا استقطبت تجربة كوردستان في العيش المشترك العدد الأكبر من المسيحيين والمكونات والأقليات الدينية والقومية الأخرى الذين اختاروا الإقليم موطناً لهم بعد موجات الاضطرابات والإرهاب التي ضربت وسط وجنوب العراق بعد سقوط النظام السابق قبل أكثر من عقدين. ولم يكن افتتاح كنيستين جديدتين في الإقليم قبل أقل من شهر، إحداهما افتتحها شخصياً رئيس الوزراء مسرور بارزاني وتكفّل بجميع نفقات بنائها، إلا استمراراً لهذا النهج. ويضاف إلى ذلك دعم رئيس الوزراء المباشر لمشروع "بيث حدياب" السكني الذي يضم 720 شقة سكنية منخفضة التكلفة للعوائل المسيحية في عنكاوا، التي باتت تُعدّ أكبر مدينة مسيحية في العراق والشرق الأوسط.
من كل هذا نستنتج بأن اقليم كوردستان بقيادة الرئيس مسعود بارزاني جعل من العيش المشترك مبدأً أساسياً للحياة وجعل من دعم المسيحيين وبقائهم برنامجاً وطنياً مميزاً.
إذن النواب المسيحيون الثلاثة ليسوا وحدهم في مواجهة التحديات؛ فإلى جانب قوة الرئيس مسعود بارزاني، أحد أقوى الشخصيات والقيادات السياسية العراقية وأكثرها تأثيراً وحكمة، تقف مع المسيحيين كتلة الحزب الديمقراطي الكردستاني القوية والمتماسكة، التي تُعَدّ من أكبر الكتل النيابية وأكثرها انسجاماً، فهي كتلة واحدة وليست ائتلافاً هشّاً قابلاً للتفكك في أي لحظة. وإلى جانبها ومتأثرة بها تقف ايضاً الكتل الكردستانية الأخرى، والكتل الوطنية المدنية التي تريد الخير للعراق وتسعى إلى تخليصه من التبعية ومن قبضة الميليشيات والفساد وتسعى للحفاظ على حقوق المسيحيين والمكونات والأقليات الأصيلة الأخرى والتي تمثل عراقة الطيف الوطني في بلاد الرافدين. سيكون المسيحيون أقوياء بقدر تحالفهم مع القوى التي تريد عراقاً ديمقراطيّاً مدنيّاً مزدهراً، عراقاً يحترم نظامه الفدرالي ويدعم إقليم كوردستان قويّاً مزدهراً ضمن عراق ديمقراطي ومتقدم في جميع المجالات.
أجندة النواب الثلاثة: نحو تشريعات عادلة وتمثيل حقيقي
من بين أهم المهام التي يتعيّن على نواب شعبنا الثلاثة العمل عليها، تعديل قانون الانتخابات المجحف، من خلال حصر التصويت لممثلي المسيحيين بالناخبين المسيحيين فقط، عبر استحداث سجل ناخبين خاص بالمسيحيين. ذلك من شأنه أن يقطع الطريق على التدخلات الخارجية والتلاعب بالمقاعد، وأن يضمن تمثيلاً مسيحيّاً حقيقيّاً غير مصادَر. كما تقع على عاتقهم مسؤولية الدفع باتجاه تعديل قانون الأحوال الشخصية، وإنهاء ظاهرة "أسلمة القاصرين" في حال الخلافات الزوجية، بما يحفظ حرية المعتقد والهوية الدينية للأبناء. ويُضاف إلى ذلك ضرورة تعديل قانون البلديات الذي يمنع تصنيع وبيع واستيراد المشروبات الكحولية؛ فالعراق ليس بلداً ذا دين واحد أو مكوّن واحد، والتشريعات يجب أن تراعي تعدديته الدينية والثقافية. وايضاً تعديل قانون الأوقاف بالتعاون مع الرئاسات الكنسية وإلى جانب ذلك، يحتاج الدستور العراقي إلى تشريع قوانين تنفيذية للمواد التي تتعلق بحقوق المسيحيين وسائر المكونات، والتي تمنح مناطقهم في سهل نينوى خصوصيةً إدارية وتنموية، مع تخصيص ميزانيات واضحة لإعمار قراهم ومدنهم ودعم حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، بما يضمن بقاءهم في الوطن ويحدّ من نزيف الهجرة.
التحالف المسيحي.. موقف مبدئي ومسار مستمر
إنّنا في "التحالف المسيحي"، الذي يُعتَبر أكبر تحالف سياسي مسيحي في العراق، والمكوَّن من: حزب المجلس القومي الكلداني، وحركة تجمع السريان، وحزب الاتحاد الديمقراطي الكلداني، وتيار شلاما لشؤون المسيحيين، والجمعية الأرمنية، وجمعية الدفاع عن حقوق الأرمن، والرابطة الكلدانية العالمية، والهيئة الإدارية لشؤون الأرمن، كنّا الجبهة السياسية المسيحية الوحيدة التي عارضت خيار مقاطعة الانتخابات البرلمانية. آمنّا بأن الفراغ لا يخدم المسيحيين ولا الديمقراطية، لذلك دعمنا المرشحين غير التابعين للميليشيات، ودعمنا الفائزين الثلاثة دون تردد، من أجل استعادة الصوت والدور المسيحي الحقيقي في العراق. وسنبقى، من خلال التحالف المسيحي والقوى السياسية التي تعمل تحت مظلته، داعمين لنواب شعبنا، من أجل مستقبل أفضل لأبناء شعبنا وأمتنا، ومن أجل ترسيخ مبادئ الديمقراطية وتطبيق الدستور العراقي من دون انتقائية، وتعزيز أسس العيش المشترك الكريم مستلهمين النهج من طرح غبطة البطريرك الكاردينال الدكتور مار لويس روفائيل ساكو إذ قال: "ينبغي على المسيحيين الخروج من العواطف والوهم، بعد دورات الانتخابات المتعاقبة، للعمل معاً كفريق واحد"، وتلبية لدعوة غبطة البطريرك ساكو نعلنها مرة أخرى أن أبواب التحالف المسيحي كعادتها مفتوحة على مصراعيها من أجل العمل المشترك لصالح أبناء شعبنا المسيحي، وليعلم الجميع أن التحالف المسيحي ليس تجمعاً تذوب فيه الأحزاب والتشكيلات، لا بل العكس، هو تجمع يرتفع من خلاله صوت شعبنا وتنظيماته السياسية أكثر، التحالف منبر تمثيل واحد باسم الجميع والغاية واحدة هي جمع الأصوات في صوت واحد قوي في المواضيع المصيرية التي تهم شعبنا ليكون صوتنا مسموعاً أمام صنّاع القرار على مستوى العراق وإقليم كوردستان وعلى المستوى الإقليمي والدولي وسيكون للتحالف برنامج خاص لدعم نوابنا على مستوى العراق وإقليم كوردستان خدمة لأبناء شعبنا وامتنا، فالتحالف بيت جميع الوطنيين دون أي استثناء، والفيتو الوحيد للتحالف هو على المليشيات وأذنابهم ومالهم الفاسد وأساليبهم الملتوية.
داود وجوليات.. من الأسطورة إلى الواقع السياسي
وكما في قصة داود وجوليات، حين وقف شاب بسيط بسلاح متواضع أمام عملاق مدجّج بالقوة والقسوة والهمجية، لم يكن النصر يومها حليف السيف أو الدرع أو الضخامة… بل كان حليف الإيمان واليقين بالحق.
هكذا نحن اليوم، كمسيحيين وكعراقيين عموماً؛ لسنا بحاجة إلى عمالقة مزيفين، ولا إلى سطوة السلاح، ولا إلى ضجيج الأبواق المأجورة. يكفينا أن نقف بثباتٍ مثل داود، نواجه "جوليات" المتخفي خلف المال الفاسد، والدعاية السوداء، والفوضى المصطنعة، والميليشيات المنفلتة.
القوة ليست في الحجم ولا في عدد البنادق، بل في صدق القضية، وفي اليد التي تسند وترفع كلمة وراية الحق في وجه الجبابرة المزيّفين دفاعًا عن الكرامة والحق والوطن. وكما سقط جوليات رغم جبروته، سيسقط كل من يتوهّم أن إرادة الناس يمكن أن تُهزم أو تُشترى، وسيسقط كل من لا يريد لهذا الوطن الخير والكرامة والاستقلال والديمقراطية والازدهار والسيادة.
قوائم انتخابات عراقية (أرشيف)