في أول ظهورٍ علني له بعد الهجوم الإسرائيلي، طلب المرشد الأعلى في إيران علي الخامنائي ترديد نشيد "أي إيران" الذي يعكس استدعاء مقصوداً للهويّة الإيرانية القوميّة. جاء ذلك في مجلس ديني خلال شهر محرّم، في ذروة إحياء الشعائر الحسينية التي تُشكّل عماد الهوية الشيعية عقائديّاً.
هذه المفارقة ليست عبثية. بل تمثّل لحظة تعلّم واعية، تؤكد أن النظام الإيراني بات يُدرك أن البقاء الداخلي في مواجهة الاختراقات الخارجية، خصوصاً من قِبل الموساد، يتطلّب تعزيز الانتماء القومي الإيراني فوق الانتماءات الطائفية والعرقية.
إيران، التي تحتوي تركيبة إثنية معقّدة تشمل الفرس، الأذريين، العرب، الكورد، واللور، وغيرهم، تسعى – في ظل الصراع - إلى تعزيز هوية قادرة على احتواء التنوع دون تهديد لوحدة الدولة. علي الخامنئي، الذي ينحدر من أب أذري وأم فارسية، ويترأس نظاماً دينياً يزعم تمثيلًا عابراً للحدود الوطنيّة للدول. ورغم ذلك، فإن الرسالة الواضحة التي بثِّها من ذلك المجلس، كانت أن النظام يقدّم مصلحة الدولة الإيرانية على المذهب.
تنظيم العلاقة مع العراق
على النقيض تماماً، ورغم إدراكها العميق لأهمية الهوية الوطنية داخليًاً، تمارس إيران في العراق سلوكاً مناقضاً. إذ تعمد الأحزاب القريبة منها على تكريس فهم طائفي وجماعاتي يهدف لتفكيك الهويّة الوطنية العراقيّة. من خلال تقديم الوطنيّة كمنتج استعماري فرضتها معاهدة "سايكس بيكو". دون أدنى إشارة موضوعية أنَّ حدود العراق الحاليّة هي الأقرب للوصف الجغرافي لـ"العراق التاريخي" المدوَّن في العهد الإسلامي العبّاسي (750 م)، والموجود كمدن ومجتمعات من قبل مجيء الإسلام.
حجج كثيرة وعديدة تستخدمها المنصّات الإعلاميّة المقرّبة من الأحزاب الموالية لإيران، يتم دفعها لتصبح في كل حدث سياسي. جميعها تهدف لتقويض "فكرة العراق" واستبدال الانتماء الوطني بانتماءات ثانويّة أخرى.
هذا النمط من التقويض المتعمّد للهويّة الوطنيّة العراقيّة يخدم هدفين أساسيّين: إبقاء العراق في حالة تبعيّة سياسيّة لإيران، وتوفير بيئة ملائمة للأحزاب السياسيّة من أجل إعادة تصدير نفسها في الانتخابات. فالأحزاب العراقية – بجميع أطيافها – تخلّت بالكامل عن الخطاب المعني بتحسين الواقع المعيشي: لا حديث عن فرص العمل، ولا عن النظام الصحي، ولا عن التعليم أو الأمن. وما دامت هذه الأحزاب عاجزة عن تقديم أي رؤية تنموية، فإنها تلجأ إلى الوسيلة الأسهل: تقسيم المجتمع وإنتاج الأزمات الهوياتية. إنّها محاولة لفصل أبناء البلد الواحد عن بعضهم البعض من خلال خلق حواجز طائفيّة وقوميّة، تقف أمام إدراك جمعي يستند على المطالب المعيشيّة المشتركة للعراقيين.
نتيجة هذا الانحدار، يُختزل العراقيون إلى هويات طائفية وإثنية: شيعة، سنة، كورد. وبذلك تُصبح القضايا المعيشية – الماء، الكهرباء، الوظائف، الصحة – مسائل هامشية أمام ما يسمى بـ"الحقوق الطائفية" و"التمثيل المذهبي". وهو ما يفسّر كيف أصبحت مشاريع قوانين مذهبية، أو حملات تحريض دينية، أكثر إلحاحاً في الخطاب السياسي من أي سياسة وطنية إصلاحية.
بالنسبة لإيران، يقدّم سلوك حلفائها هذا الأداة المناسبة لإبقاء العراق تحت طائلة نفوذ طهران. إذ مع تقسيم العراقيين لجماعات، يمكن وبسهولة الترويج للأفكار الأساسيّة لولاية الفقيه في المجتمعات الشيعيّة ومدن وسط وجنوب والعراق ذات الثقل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الأكبر في البلاد. إنّها معادلة يفوز فيها بشكلٍ أساس كافة عناصر المحور الإيراني – طهران وحلفاؤها العراقيّون.
أما القوى السنيّة، فلا تقف موقف المعترض. بل تستثمر الخطاب الطائفي في مجتمعاتها لتبرير وجودها، بذريعة "مواجهة التمدد الشيعي".
الآن وقت الهويّة الوطنية
من غير المرجّح أن تتبنّى الأحزاب العراقية الموالية تجربة النظام الإيراني في تعزيز الهوية الوطنية. ذلك سيعني عمليّاً نهاية نظام ما بعد 2003 القائم على المحاصصة الطائفيّة.
إلّا أنه يبقى ضروريّاً على العراقيّين أن يخلقوا مشروعاً سياسيّاً بديلًا، يستند إلى ربط الهويّة الوطنيّة بالمصالح المعيشيّة المشتركة، ويفكّك هذه العزلة المفروضة قسراً بين مكوّنات المجتمع العراقي. يجب أن يصبح الفضاء العام مساحة للعمل الجماعي المنظّم، وليس ساحة لصراعات طائفيّة وإثنيّة.
أمّا الإبقاء على التقسيم الجماعاتي الحالي، فلن يخلّف سوى ارتهان العراق الدائم لأجندات إقليميّة. فحتى لو سقط النظام الحالي في إيران، سيبقى العراقيّون، بلا هويّة وطنيّة جامعة، عالقين في فلك نظام إقليمي آخر. فإن لم تكن تركيا فربّما يكون النظام الإيراني القادم. فالعراق لا يستطيع أن يغيّر موقعه الجغرافي، لكن العراقيين قادرون على صياغة استراتيجية داخلية على نحو يحصّنهم من الابتلاع الإقليمي. إنّها معركة طويلة لإعادة تعريف معنى "العراقي" بما يقود إلى خلاصٍ جماعي من الفساد والفوضى والتقسيم.