مرّت السلطة القضائية في العراق، خلال الأسبوعين الماضيين، بأكبر اختبار لمشروعيتها منذ عام 2005. فاستقالة رئيس المحكمة الاتحادية العليا وعدد من قضاتها، لم تكن حدثاً إدارياً عابراً، بل بمثابة زلزال دستوري كشف عن مدى التآكل الذي أحدثه التدخل السياسي في استقلال القضاء، وتحوّل المحكمة من مرجع قانوني إلى فاعل سياسي غامض، يتداخل مع إرادات الكتل ومراكز النفوذ.
وعلى خلاف الصدمة الأولية التي رافقت هذه الاستقالات، فإن تعيين رئيس جديد للمحكمة لا يُعدّ كافياً لاستعادة الثقة العامة. ما تحتاجه المحكمة اليوم هو إعادة تموضع دستوري ومهني وأخلاقي يعيد تعريف وظيفتها ضمن الإطار الذي أُنشئت لأجله: كحامية للنص الدستوري، لا كمنتجة لتفسيراته على هوى اللحظة أو ميزان القوى.
لقد فقدت المحكمة خلال السنوات الأخيرة توازنها، ولم تعد تكتفي بتفسير الدستور، بل راحت تتوسّع في صلاحياتها، وتُصدر أحكاماً تعيد رسم المعادلة السياسية، كما حدث مع إلغاء "الثلث الضامن"، وتأويل المادة 76 بما يخالف الفقه الدستوري المستقر. الأسوأ من ذلك، أن المحكمة تحوّلت إلى غرفة خلفية لتسويات كبرى، تتلقى رسائل من القوى السياسية، وتراعي توقيتات حساسة، ما جعلها جزءاً من هندسة السلطة، لا حامية لقواعدها.
وإذا كانت استقالة عدد من القضاة قد كشفت عن انقسام داخلي ورفض لبعض المهنيين لما جرى، فإن التغيير الحقيقي لن يتحقق ما لم تشرع المحكمة، برئيسها الجديد، في إجراءات تصحيحية جادة وشفافة، يمكن تلخيصها في المحاور التالية:
أولاً: إعلان ميثاق سلوك قضائي جديد
ينبغي أن تصدر المحكمة بياناً تأسيسياً يُعيد التأكيد على حيادها التام، ورفضها لأي تدخل سياسي أو اصطفاف مع طرف دون آخر. هذا البيان يجب أن يوضح أن المحكمة لن تخضع بعد اليوم لأي شكل من أشكال "التأويل المُوجّه"، أو "التفسيرات التوافقية" التي تطوّع النصوص لخدمة الإرادات السياسية.
ثانياً: مراجعة الاجتهادات السابقة ذات الطابع السياسي
من الضروري إعادة تقييم عدد من القرارات السابقة التي تجاوزت حدود النص، أو أسهمت في خلق أزمات بدلًا من معالجتها. ليس المطلوب هنا الانقلاب على الماضي، بل الاعتراف بأن المحكمة انزلقت أحياناً إلى اجتهادات فوق دستورية، وفتح نقاش قانوني حولها يضمن عدم تكرارها.
ثالثاً: إغلاق قنوات التفاوض الحزبي
لا يمكن إصلاح المحكمة إذا لم تُغلق بشكل صارم ونهائي كل الأبواب الخلفية للتفاوض والتأثير السياسي. المحكمة ليست طرفًا في العملية السياسية، ولا وسيلة لتعديل توازنات القوى. استمرار هذه القنوات لن يؤدي سوى إلى إعادة إنتاج الفوضى، وتعميق فقدان الثقة في السلطة القضائية العليا ولا سيما قضائها الدستوري.
رابعاً: إشراك المجتمع القانوني في المراجعة
ينبغي إطلاق مشاورات مغلقة مع فقهاء القانون الدستوري، وأساتذة الجامعات، والقضاة المتقاعدين، بهدف مراجعة مسار المحكمة، وآليات اتخاذ القرار فيها، وتعزيز الشفافية، وبناء آلية رقابة مهنية داخلية تضمن استقلال القاضي عن الأهواء السياسية والضغوط السلطوية.
خامساً: تحديد موقف واضح من الانتخابات المقبلة
على المحكمة أن تبادر، دون انتظار طلب سياسي، إلى إصدار بيان يوضح موقفها من الانتخابات القادمة، من حيث الإشراف القضائي، واستقلالها في نظر الطعون، ورفضها أي تأجيل سياسي مغلّف بذرائع قانونية. الصمت في هذه اللحظة سيُفسّر كاصطفاف أو تورط، وهذا ما لا تحتمله المحكمة في وضعها الحالي -الهش-.
إن المحكمة الاتحادية، في لحظة العراق الحالية، ليست مجرد هيئة قضائية دستورية عليا. بل هي عنوان رمزي لمشروعية النظام السياسي. وإذا لم تستطع أن تنأى بنفسها عن صراعات السلطة المتصاعدة في الفترة الحالية التي تسبق الانتخابات التشريعية التي ستجرى في نوفمبر القادم، فإنها ستتحوّل إلى طرف منتج للانقسام وفاقد للشرعية وستؤدي لتكريس الاغتراب السياسي الذي يهدد مستقبل الديمقراطية في البلاد.
ربما لا تستطيع المحكمة أن تغيّر موقع العراق الجغرافي، أو أن تفكّ ارتباطه القسري بصراعات الإقليم، لكنها تستطيع أن تؤسس لنقطة اتزان قانوني يعيد الحد الأدنى من الإيمان بالدولة ومؤسساتها الدستورية.
أما إذا استمر انحدارها، فإن العراق سيتجه نحو فوضى دستورية مفتوحة، ستكون فيها شرعية الدولة موضع نزاع لا حَكَم وسينتج اضطراراً فقدان لآخر معاقل الدولة العاقلة أو ما تبقى منها في عراق ما بعد 2003.