حين تتحول العدالة الانتقالية إلى سلاح انتخابي: كيف تُغتصب الديمقراطية في العراق؟

4 قراءة دقيقة
حين تتحول العدالة الانتقالية إلى سلاح انتخابي: كيف تُغتصب الديمقراطية في العراق؟ لافتة ضد حزب البعث خلال احتجاجات (أرشيف)

بينما يستعد العراقيون لخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة، تتزايد المخاوف من أن تشهد هذه الدورة أعلى تمثيل للفصائل المسلّحة والأحزاب الدينية منذ 2003. لكن خلف هذا التوقع يكمن سبب جوهري يتعلق بتسييس مؤسسات العدالة الانتقالية، وعلى رأسها "هيئة المساءلة والعدالة"، التي كان يفترض أن تكون أداة للإنصاف التاريخي والمصالحة الوطنية، فإذا بها تتحول إلى أداة للإقصاء الممنهج وتصفية الحسابات السياسية.

 

في النظريات الديمقراطية وتجارب العدالة الانتقالية حول العالم، تُنشأ هيئات كهذه لضمان كشف الحقائق، وإنصاف الضحايا، وطي صفحات الماضي بروح المصالحة. إلا أن التجربة العراقية انحرفت عن هذا المسار، فتحولت إجراءات المساءلة والعدالة إلى وسيلة لتقويض مبدأ تكافؤ الفرص، وإفراغ العملية الانتخابية من مضمونها التنافسي.

 

 

خلفية تاريخية: من اجتثاث البعث إلى المساءلة والعدالة

تعود جذور الهيئة إلى عام 2003، حين أنشأت سلطة الائتلاف المؤقتة "هيئة اجتثاث البعث" بهدف استبعاد قيادات وأعضاء الحزب الحاكم السابق من مفاصل الدولة، في محاولة لقطع الطريق أمام عودة النظام السابق. لكن هذه الهيئة تحولت مع مرور الوقت إلى أداة سياسية في يد أطراف نافذة.

 

وفي عام 2008، أقرّ البرلمان قانون المساءلة والعدالة رقم (10) ليحل محل هيئة الاجتثاث، مع وعود بتحديد مدة عملها وإنهاء مهامها بعد تقديم تقريرها النهائي. غير أن طول أمد عمل الهيئة، وتوسع صلاحياتها، وغياب آليات مستقلة لمراجعة قراراتها، جعلها تتحول من أداة مؤقتة للعدالة الانتقالية إلى مؤسسة دائمة للإقصاء السياسي.

 

قانون المساءلة والعدالة نص في مادته (25) على أن حل الهيئة يتم بعد تقديمها تقريرها النهائي إلى مجلس النواب، ليصوت البرلمان بعد ذلك على الحلّ. وفي خطوة بدت منسجمة مع برنامج الحكومة وورقة الاتفاق السياسي التي تشكلت على أساسها بعد انتخابات 2021، وجّه رئيس مجلس الوزراء كتاباً رسمياً للهيئة يطلب منها تقديم تقريرها النهائي تمهيداً للحل.

 

لكن ما جرى كان العكس؛ إذ أخفق البرلمان في تنفيذ هذا الالتزام، وذهب رئيسه آنذاك، محمد الحلبوسي، في اتجاه معاكس تماماً حين صوّت على تثبيت رئيس الهيئة الحالي، ما أبقى هذا الملف مفتوحًا وأبطل أي محاولة لغلقه.

 

أحد أهم الأسباب وراء استمرار عمل الهيئة، هو وجود رغبة سياسية سنية، مدعومة بتواطؤ من قوى شيعية، للإبقاء على هذا الملف حيّاً. هذا الإبقاء لا يهدف فقط إلى استبعاد الخصوم من المكوّنات الأخرى، بل يُستخدم أيضاً لتصفية الخصوم داخل البيت السني نفسه، مما يمنح بعض الأطراف ورقة ضغط وانفراداً في تمثيل المشهد السياسي السني.

 

وفي نهاية المطاف، تصب هذه المعادلة في صالح القوى المسلحة والأحزاب الدينية المهيمنة على الدولة، التي ترى في استمرار عمل الهيئة وسيلة مضمونة لضمان تفوقها الانتخابي وإقصاء خصومها، لا سيما من القوى المدنية والوطنية التي لا تمتلك شبكات الحماية المسلحة أو الدعم الديني.

 

إذا استمرت هذه الهيمنة على مؤسسات العدالة الانتقالية، فإن الانتخابات المقبلة لن تكون ساحة تنافس حر، بل أشبه بسباق تُقصى منه الأطراف المزعجة لصالح القوى التي تملك النفوذ والسلاح. وهكذا، تتحول الديمقراطية إلى واجهة شكلية، فيما يتم التحكم بنتائجها من وراء الكواليس عبر أدوات الإقصاء القانوني والسياسي.

 

إغلاق ملف المساءلة والعدالة وفق ما نص عليه القانون ليس خياراً فنياً أو إجرائياً فحسب، بل هو خطوة ضرورية لإنقاذ ما تبقى من العملية الديمقراطية في البلاد. استمرار هذا الواقع يهدد بتكريس نظام سياسي مغلق، تتحكم فيه الفصائل المسلحة والأحزاب الدينية بلا منازع، ويقضي على أي أمل في تداول سلمي حقيقي للسلطة.

 

إن إنقاذ المسار الديمقراطي يتطلب إرادة سياسية تتجاوز منطق الصفقات المؤقتة، وتلتزم بفصل العدالة الانتقالية عن الصراع الانتخابي، وإعادتها إلى وظيفتها الأصلية: طي صفحة الماضي، لا إعادة استخدامها كسيف مسلط على الحاضر والمستقبل.

 

 

محي الأنصاري رئيس مركز الرشيد للتنمية

نُشرت في السبت 16 أغسطس 2025 06:12 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.