سنجار 3 آب: ساعة بربريّة حطَّمت سبعين ألف عام من الحضارة

4 قراءة دقيقة
سنجار 3 آب: ساعة بربريّة حطَّمت سبعين ألف عام من الحضارة الدمار في مدينة سنجار - منظمة الأمم المتحدة للهجرة IOM

 في بلاد أنجبت أقدم نبض حضاريّ على أديم الأرض، ما تزال أنياب التوحّش مغروسة في الجسد الكرديّ، ولأنّ للتاريخ سخرية مُرَة، جُبلَ تراب شِنْگال (سِنجار) بقمح زرعه أسلافها قبل سبعين ألف عام، ثم سُقي فجر 3 آب/أغسطس 2014 بدماء أبنائها حين انفرجت أبواب الجحيم على يد "داعش"، خلال ساعات انهار سور الإنسانية، وتحول تاريخ الزراعة الأوّل إلى موسم حصاد للذبح والسبيّ.

 

  لم تكن "الخلافة" سوى قناع لإيديولوجيا قديمة تستعير خطاب السماء لتشرعن جريمة الأرض، فجنودها اقتحموا البيوت ودكّوا المزارات، وأطلقوا الرصاص على كلّ ذكر أعزل، ثم حولوا النساء إلى سبايا في أسواق نخاسة أُعيد افتتاحها على أنقاض القرن الحادي والعشرين، من أصل 6417 مختطفاً (3548 امرأة و 2869 رجلاً)، تم تحرير 3590 ناجية وناجياً (1211 امرأة، 339 رجلاً، 1076 طفلة، 964 طفلاً)، بينما عُثر على رفات 274 شهيداً في مقابر جماعية، وما يزال  2553 مفقوداً، علماً بأن هذه الأرقام موثَّقة لدى الأمم المتحدة حتى نهاية تموز 2025.

 

  ظنّ أهل المدينة أن المحنة انطوت حين حرّرتها البيشمركة أواخر 2015، لكنّ فصائل مسلحة وميليشيات مدعومة بقوى أجنبية أعادت احتلالها منذ أواخر 2017، وشرعت ابتداء من 2018 في تغيير ديموغرافي منهجي يحاول اقتلاع هوية المدينة من جذورها، اليوم، سنجار مهدّمة بالكامل؛ لا بنية تحتية، ولا خدمات، والمعاد تعويضهم حفنة لا تذكر، أعمدة الخراب هذه تُذكّر بأنّ الجريمةَ لم تنته بتحرير مؤقت، بل استحالت إلى احتلال يغلق أبواب العودة ويكرّس التهجير القسريّ.

  تتجلّى فداحة المأساة في ثلاث طبقات متزامنة:

-       شتات النازحين الذين يطاردهم الشتاء والصيف بين خيام المخيّمات.

-       ركام مدينة تحوّلت إلى أطلال مع وقف التنفيذ.

-       أسرُ المفقودين التي تصارع بيروقراطيا الدول بحثاً عن أثر لأبنائها، فيما تلوح فوق رؤوسهم خريطة عمليات سكانيّة تغيّر هوية الأرض.

  وإذا كانت جرائمُ "داعش" قد وقعت تحت ضوء كاشف عالميّ، فإنّ المرحلة اللاحقة تمُرّ بلا رقابة: لا مساءلة للميليشيات، ولا خطة إعمار جدّية، ولا ضمانات تعيد الثقة للسكّان، هكذا يواصل التاريخ نزيفه بين قتيل بلا قبر وحيّ بلا منزل.

  يقف العالم اليوم أمام اختبار أخلاقي وسياسي واضح:

-       اعتراف دولي مُلزِم بأنّ ما جرى للإيزيديين إبادة جماعية متواصلة، يتبعه تفكيك الميليشيات وسحب القوى الأجنبية وإحالة الجناة جميعاً – أفراداً ورعاة – إلى العدالة.

-       آليّة بحث دوليّة عن المفقودين تُوظّف التكنولوجيا الجنائية وترفع السرّية عن أرشيف الاستخبارات والميليشيات على حدّ سواء.

-       إعادة إعمار شاملة بضمانات تمويلية على غرار برامج ما بعد الحروب، تُعيد النازحين وتحصّن عودتهم بحقوق ملكيّة لا تمسّ.

-       مظلّة حماية أممية تُراقب أيّ محاولة جديدة للتطهير أو التهجير، لأنّ الأمن المحلّي أصبح جزءاً من معادلة التعويض والعدالة.

  ستظل شنكال شاهداً على أنّ سبعين ألف عام من الحضارة قد تُدهَس في ساعة، لكنّها تُثبت أيضاً أنّ بذرة الحياة تُغلب ولا تموت، فمَن زرع القمح أوّل مرّة فوق هذا السفح، ترك وصيّة غير مكتوبة:

"كلّما ردمتَنا المجارفُ سننبتْ قمحاً وحكايات"

أمّا الحكاية التالية فلن يكتبها الدجّالون بل الناجون، متى انكسر القيد الأخير!

·       سنجار (شنكال) مدينة تقع في شمال غرب محافظة نينوى 120كم، تسكنها غالبية كوردية من الايزيديين والمسلمين، إضافة الى المسيحيين والعرب.

·       وردت في كتاب انتصار الحضارة للأثاري الأمريكي سيغموند لوئيد.

كفاح محمود كاتب وباحث سياسي

نُشرت في الاثنين 4 أغسطس 2025 10:10 ص

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.