التحريض الطائفي وحريّة التعبير

4 قراءة دقيقة
التحريض الطائفي وحريّة التعبير رجل الدين عدّاي الغريري والشاعر عبدالحسين الحاتمي (فيسبوك)

أصدرت لجنة المحتوى الهابط في وزارة الداخلية، أوامر بإلقاء القبض على شخصيّتين، سنية وشيعية، بتهمة تداول مواد محرّضة على الكراهية الطائفية على مواقع التواصل الاجتماعي، وتهدد السلم الأهلي، وهذا أمر ظاهرياً، يبدو جيداً، وتشكر عليه وزارة الداخلية.

 

ولكن، ونضع خطّين تحت كلمة لكن، هل هذا علاج مناسب؟ أن ننتظر وقوع هذه الحوادث، وهي كثيرة، خصوصاً في أيام المناسبات الدينية، حتى نلقي القبض على مرتكبيها؟، أو ننتظر شكوى من مواطنين، وضغطاً من سياسيين، حتى نتحرك لمحاولة تلافي وقوع مشاكل أكبر؟.

 

شهد موسم زيارة الإمام الكاظم في ذكرى وفاته، مطلع هذا العام، زيادة ملفتة في حوادث التحريض الطائفي، لا سيّما من جماعات متشددة تحظى بحماية الميليشيات، ودخلت بعض هذه الجماعات بسيّارات حوضية تحمل "دي جي" بسماعات كبيرة، إلى أحياء وأزقة مدينة الأعظمية، وكانت تردّد أشعاراً تشتم الشخصيات المقدسة والمحترمة. وكأن هؤلاء قد ضلّوا الطريق المتوجّه إلى الإمام الكاظم عبر جسر الأئمة! وحصلت حوادث مشابهة قرب مرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني. ولم تفعل وزارة الداخلية أي شيء في وقتها.

 

واليوم، مع دخولنا في موسم زيارات عاشوراء، نتوقّع ظهور حوادث جديدة، إن كان من قبل خطباء أو منشدين، أو مستخدمين عاديين لمواقع التواصل الاجتماعي، وهي أمور تضرّ بالطابع المقدّس للطقوس والشعائر، قبل أن تضرّ الآخرين من طوائف أخرى. فليس من المفهوم، في مناسبات الحزن واستذكار قيم الشهادة والتضحية للأئمة، أن ينفصل مؤدو هذه الطقوس عنها نفسياً، ليحوّلوها إلى فرصة لاستهداف الآخرين والاعتداء على ما يقدّسون ويحترمون.

 

إن هذه الأفعال، رغم أنها تحدث دوياً كبيراً في مواقع التواصل ووسائل الإعلام، إلا أنها تصدر عن فئات قليلة، ولا تمثل مزاج ورأي الأغلبية، وهي من منتجات الوضع العراقي الراهن، الذي يشهد تنافساً بين أبناء الطائفة الواحدة، للحصول على مرتبة (الأكثر وفاءً وانتماءً للطائفة)، وأيضاً للتنافس بين الطوائف، لتهيئة المزاج للسباق الانتخابي، وهي مناسبات ينبري فيها أشخاص للدفاع عن الطائفة ضد "اعتداءات" الطائفة الأخرى، فتبدو وكأنها حوادث مثمرة لمن يريد أن يتكسّب منها من الطرفين.

 

إن الإجراءات الأمنية اللاحقة تشبه إدخال مصاب بطلق ناري إلى المستشفى بسبب معركة اندلعت في الشارع بين عصابتين، بينما الواجب هو ردع العصابات أصلاً وإلقاء القبض عليها قبل أن تتسبّب بمقتل أو جرح أحدٍ من المواطنين.

 

المطلوب هو تفعيل القانون لمنع الاعتداء على العقائد المحترمة عند الناس، من أي طائفة أو دين كان، لا مجرّد ملاحقة من يرتكب هذه الأفعال، فليست كلّها معروضة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا يملك الناس جميعاً شجاعة كافية للاعتراض، ونسبة كبيرة منهم يطلبون السلامة ويسكتون، على الرغم من شعورهم بأنهم يتعرضون للإساءة.

 

قد تندرج الإساءات هنا تحت خانة "حرية التعبير"، فعلى سبيل المثال؛ تشهد المجتمعات المتحضّرة حول العالم، وبشكل يومي، أشكالاً من النقد والسخرية على المعتقدات الدينية المختلفة، ولكنها مجتمعات مستقرة، تجاوزت منذ عقود طويلة الحساسيات الدينية والطائفية، وارتقى الأفراد فيها إلى مستويات من تقبّل المساحات الواسعة لحرية التعبير، بحيث لا يشعر أحدٌ بالإساءة والاستهداف لأن أحداً انتقد رمزه الطائفي أو الديني.

 

كما أن الكثير من المدوّنات القانونية العالمية، ومنه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تضع حدوداً واضحة ما بين حرية التعبير أو الاستهداف والتحريض؛ فنقد الأفكار والقصص التاريخية والشخصيات الدينية، لا يجب أن يتحوّل إلى تحريض مباشر على فئة في المجتمع أو جماعة، بما يؤدي إلى شرعنة الاعتداء على هذه الفئة.

 

لكننا في المجتمع العراقي، وفي وضعنا الراهن، حيث تتشابك السياسة مع مشاعر مجتمع معبّأ طائفياً، وحيث سلطة الدولة والقانون ليست راسخة، ليست لدينا رفاهية التعامل الكفوء مع السقوف العالية لحرية التعبير. ويجب أن تمارس الدولة دورها في الحفاظ على المصالح الوطنية العليا، ومنها منع أفراد من إثارة الكراهيات والتحريض الطائفي، لا أن تنتظر أن تحصل هذه الحوادث ثم تأتي لتلاحقها.

 

 

 

 

 

أحمد سعداوي كاتب وروائي

نُشرت في الجمعة 4 يوليو 2025 07:00 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.