ما ما عدا الفترتين القصيرتين لإياد علاوي وإبراهيم الجعفري، يمكن القول إنّ أوّل رئيس وزراء عراقي كامل الصلاحيات في عراق ما بعد 2003 هو نوري المالكي. ما زال المالكي حتى الساعة رجلاً مؤثراً ولاعباً أساسياً في الساحة السياسية العراقية، على الرغم من أنّ تأثيره تراجع مقارنةً بالمساحة التي حازها في الفترة ما بين 2010 و2014.
إنّ كلّ ما جرى بعد انتهاء الولاية الثانية للمالكي وإلى اليوم لا يعدو كونه محاولات لمنع ظهور "مالكي" آخر. ولكن، هل هو (أو النموذج الذي يمثّله) خطر إلى هذه الدرجة؟!
في الحقيقة، أنّ خروج رجل من الصف الثاني من السياسيين إلى الواجهة، ثم تحوّله إلى قائد شعبي لدى نسبة كبيرة من الشيعة العراقيين على الأقل، لم يكن صدفة ولا نتيجة مخطط سيّئ. بل على العكس؛ كان الأميركيون، منذ اليوم الأول الذي وطئت فيه أقدامهم بغداد، يخطّطون للانسحاب، وأن يكون العراق تحت سيادة سلطة وطنية تنتجها عملية ديمقراطية فاعلة. والأهم أن تكون هذه السلطة الجديدة مستقرّة، ما يعني أنّها يجب ألّا تكون في خصام أو صدام مع القطاعات الاجتماعية الواسعة، وعلى رأسها عوام الشيعة ونخبهم المدنية والدينية.
السلطة المستقرة هي تلك التي يقبلها غالبية الناس، وتستطيع، بفضل هذا القبول، أن تمرّر برامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لقد عُلّقت كارثة الحرب الأهلية القصيرة (2005–2007) برقبة الجعفري، إضافةً إلى عدم قبول الكورد والسنّة به رجلاً لمرحلة أطول. وهكذا جرى التوافق على المالكي بين النخب السياسية العراقية المختلفة، بقبول من مرجعية النجف وإمضاء من الأميركيين.
جزء كبير من شعبية الرجل أنّه مثّل، عند قطاعات واسعة، نموذجاً لقائد مدني محافظ؛ فهو من حزب إسلامي، ولكنه لا يمارس – ظاهرياً – سياسات إسلامية متشدّدة. "أفندي" بربطة عنق وبدلة، ضد المليشيات السنيّة والشيعية، ويدعم بناء الدولة.
غالبية من يقاطعون الانتخابات اليوم يشعرون بالإحباط من غياب نموذج ناجح لشخصية من هذا النوع، بعد خيبة أملهم بالمالكي نفسه، إثر كارثة داعش، ثم دعمه لإنشاء تشكيلات مليشياوية لمواجهة التنظيم بدلاً من تقوية أجهزة الدولة الأمنية الرسمية.
كانت هناك لحظتان خطيرتان في مسار الأحداث التي كان المالكي في بؤرتها:
الأولى: استجابة الإدارة الأميركية، في عهد أوباما، للمخاوف الشيعية الداخلية من عودة البعث أو تزايد نفوذ السنّة بعد انتخابات 2010، إذ دعمت تولية نوري المالكي رئاسة الوزراء لولاية ثانية، رغم أن الفائز كان ائتلاف إياد علاوي. كان الأميركيون يبحثون عن "سلطة مستقرة"، على الرغم من أن ثقتهم بالمالكي كانت قد ضعفت بسبب سياسات الإقصاء الطائفي التي انتهجها.
الثانية: فشل الأميركيين في إبقاء قوة محدودة للتدريب والدعم بسبب رفض البرلمان العراقي منح الحصانة للقوات الأميركية. الأمر الذي جعل انسحابهم في أواخر 2011 كاملاً، ما ترك فراغاً أمنياً لم تكن الأجهزة الأمنية العراقية قادرة على السيطرة عليه، فأعادت القاعدة تنظيم صفوفها من جديد، ثم انشقت "داعش" عنها لتكون كياناً أكثر خطورة وشراسة، وأكثر "عراقية" ومعرفة بتعقيدات المشهد الاجتماعي والسياسي العراقي.
صدّر المالكي نفسه، خلال عقد كامل من عمر العراق الجديد، بصورة الرجل القويّ، وهي صورة أثّرت في جمهور كبير. لكن إزاحة المالكي، رغم حصوله على أعلى الأصوات في انتخابات 2014، كانت أشبه بصدمة صحو من حلم طويل بدا كابوسياً في مقطعه الأخير.
كل رؤساء الوزراء الذين جاؤوا بعده ليسوا سوى محاولات لإنتاج "مالكي" الولاية الأولى، أو استعادة الموقع الذي شغله، لكن برؤية وحساسية مختلفتين. غير أنّ المشكلة الأعمق التي تواجههم أنهم يعيشون في مقطع زمني مختلف، مقطع تهيمن عليه التحوّلات الحاسمة التي صنعها المالكي نفسه. ففي ولايته الأولى كانت المليشيات مطاردة وتعمل تحت السطح، أما اليوم، وبسبب المالكي نفسه، فهي تمثل مظلّة السلطة وأداتها القويّة.