و"الصاحية" في العنوان أعلاه هي عكس "المخمورة"، في سياق السخرية التي شعر بها الكثير من المعلّقين على مواقع التواصل العراقية من اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية، أواخر العام الماضي، في الوقت الذي تغلق فيه بغداد باراتها وأنديتها الاجتماعية، وتلاحق محال بيع الخمور، وتفتّش سيّارات السائحين القادمين من كوردستان العراق، بحثاً عن قناني أو علب بيرة مخبأة في الصندوق أو بين الأمتعة.
تصاعد هذا الحال تحديداً منذ إقرار قانون الواردات البلدية في 2023، والذي تنصّ المادة 14 فيه على تجريم بيع وشراء الخمور وتصنيعها، في مخالفة صريحة لمجموعة من المواد الدستورية.
حيث تنصّ المادة 2 من (الفقرة ب) أنه "لا يجوز سنّ قانون يتعارض مع الحقوق والحريّات الأساسية التي وردت في هذ الدستور". أما المادة 17 من الدستور فتنصّ أن "لكلّ فرد الحقّ في الخصوصية الشخصية. ولا يجوز الدخول أو التفتيش إلا بقرار قضائي". أما المادة 41 فتضمن حماية واحترام الخصوصية الدينية والطائفية.
وبسبب هذه المخالفات الفاقعة فإن عدداً المحامين، وكلاء أصحاب مخازن مشروبات أو تجار للمشروبات، ما زالوا يطعنون بهذه المادة أمام القضاء العراقي من أجل نقضها أو تعديلها، غير أنهم لم يحصلوا حتى الساعة على أي بصيص أمل، وسط صمت مريب من (الوسط المستهلك) للمشروبات الكحولية، ومنهم نوّاب في البرلمان وطائفة واسعة من المثقفين والاعلاميين والموظفين في أجهزة الدولة المختلفة.
هناك اليوم بعض المحال التي تفتح أبوابها في جانب الكرخ من بغداد، إما تساهلاً من قيادات الشرطة في المنطقة، أو لأن جهة ما تحمي أصحاب هذه المحال، ولكنها سرعان ما تتعرّض للإغلاق بسبب حميّة نائب أو نائبة في البرلمان، أو لتغيّر مزاج صاحب سلطة في المنطقة التي فيها هذا المحل.
المشروبات الكحولية، وبصريح العبارة، جزء من التقاليد الاجتماعية والثقافية العراقية، والعراق منذ أن بدأ التاريخ وهو يصنع ويستهلك الخمور. بل في أوثق الأخبار، أن السومريين والبابليين الأوائل، قبل 4000 سنة قبل الميلاد، صنعوا أشكال الكحول الثلاث السائدة: الفقاع (مثل البيرة والشمبانيا اليوم)، والمخمّر (النبيذ والواين بأنواعه) والمقطّر (ما يماثل العرق والفودكا والويسكي)، وكانت الحكول جزءاً من الطقوس الدينية والاجتماعية، بل وتُستخدم جرار البيرة جزءاً من أجور العمّال بشكل معتاد.
حتى في العصور الإسلامية، وذروتها في العراق في العصر العبّاسي، كانت هناك 40 حانة معروفة، وقد تم تكييف وجود هذه الحانات ضمن نظام معقّد، يتيح للمسيحيين واليهود والصابئة فتح هذه الحانات، على الرغم من أن زبائنهم الأساسيين هم من المسلمين.
واستمر هذا النظام المعقّد طوال الحقب اللاحقة حتى العهد العثماني، وتم تحديثه من دون إلغاء في عهود الدولة العراقية الحديثة، في النظامين الملكي والجمهوري، واستحدثت ضوابط عديدة تحدّد أماكن إنشاء البارات أو الأندية الاجتماعية التي تقدّم المشروبات الكحولية. بالإضافة إلى القوانين العالمية المعتادة التي تحاسب على القيادة تحت تأثير المسكرات وغير ذلك.
لا يوجد مبرّر للإصرار على منع الكحوليات ضمن قانون واردات البلدية، الذي تم تقديمه في سنوات سابقة ولم يمرّر، سوى الرغبة بفرض وجهة نظر ورأي مجموعة خاصّة من العراقيين على بقيّة المواطنين، فالعراقيون في الغالب لا يتّفقون في الرأي على ما هو محرّم وغير محرّم أو مرغوب ومفضّل.
فهناك الكثير من العراقيين يحرّمون أكل سمك "الجرّي" بينما هو مباح عند آخرين، ويأكل البصريون الحيوانات البحرية، مثل الروبيان وغيره، بشكل معتاد، بينما لا يفضّله آخرون. ويدخل لحم الجمل ضمن قائمة اللحوم المحلّلة إسلامياً، غير أن غالبية العراقيين، ما عدا البدو وسكّان البادية، لا يفضّلونه.
إن الخمور ليست مجرد مشروبات مسكرة، وإنما هي فضاء اجتماعي كامل وتقاليد ثقافية وحضرية، وقد لا يرغب الكثيرون بتناولها لأسباب دينية أو صحيّة، إلا أن ذلك لا يخوّل أحداً منع الآخرين منها، لا دستورياً ولا قانونياً ولا حتى عرفياً، فضلاً عن تأثير ذلك على صورة البلد الذي يراد له أن يكون مفتوحاً على العالم، لا أن ينعزل بإجراءات لن تؤدي إلى اختفاء الخمور في نهاية المطاف، وإنما انتقالها إلى ما (تحت الطاولة) كما يجري منذ عقود في إيران وبعض البلدان العربية.