الشعائر الحسينية بين التاريخ والوظيفة.. حياة جديدة بعد الولادة من النصوص

18 قراءة دقيقة
الشعائر الحسينية بين التاريخ والوظيفة.. حياة جديدة بعد الولادة من النصوص

الطقوس تبدلت وأضيف لها ممارسات مختلفة

 

يروى الشيخ مرتضى مطهري في كتابه الملحمة الحسينية ما مضمونه أن في زمن المرجع الديني حسين البروجردي (ت 1962م) كانت تقام بعض المراسيم والطقوس بعنوان الشعائر الحسينية، وكان البروجردي يرى حرمتها، فدعا رؤساء المواكب والهيئات الحسينية  إلى إجتماع في منزله وسألهم يومها: أي المراجع تقلدون؟ فقالوا له جميعاً: نقلدك أنت. فقال لهم: إن فتواي بشأن هذه المسرحيات والتمثيليات التي تقيمونها بالشكل الذي سمعت حرام في حرام، فهل تعرفون؟ والكلام لمطهري، ماذا كان ردهم عليه؟ قالوا له: مولانا، نحن نقلدك طوال العام ما عدا هذه الأيام الثلاثة أو الأربعة، فنحن لسنا من مقلديك.

 

 تشير هذه الحادثة التاريخية إلى مكانة الطقس/ الشعيرة في المخيال الديني للجماعة، وما تمثله في وجدانهم من اعتبارات روحية تتفوق على أي اعتبار آخر، فرغم المكانة السامية التي يتمتع بها مقام المرجعية الدينية وفقاً للتعاليم الدينية الشيعية، وما تمتلكه من هيمنة على الجماعة الشيعية المنقادة لها بصورة شبه مطلقة، إلا أن المرجع البروجردي ورغم ما يتمتع به من نفوذ ممتد ومكانة قلما تمتع بها مرجع آخر، لم يتمكن من مجابهة الكثير من مظاهر وأشكال التدين الشعبي، فهذه الممارسات الشعائرية تكتب لها حياة مستقلة بعد ولادتها من رحم النص أو المخيال، فهي تأخذ بالتطور والتبدل وتضاف لها الكثير من الممارسات التي تفارق النص بصورة أو أخرى،  ولا تعود تبحث بالضرورة عن ما يوفره النص لها من غطاء الشرعية، فهي في مخيال الجماعة متقومة بذاتها، ولا تحتاج لشرعية أخرى خارجة عن وظيفتها، وما توفره للجماعة من موارد تلبي حاجاتها الروحية والاجتماعية والسياسية.

 

 لذلك ارتأت بعض الزعامات الروحية أن الاستثمار في هذا الرأسمال الرمزي خير من محاولة إصلاحه، لأن القيام بمثل هذه الإصلاحات قد يكلفها كثيراً من رأس مالها الرمزي، فقامت بدعوة الناس إلى الإيغال أكثر في ممارسة الطقوس الخرافية واللاعقلانية، بينما اختارت زعامات أخرى طريق السكوت في مفارقة أنثروبولوجية غريبة يتحول فيها المتبوع إلى تابع والتابع إلى متبوع في نوع مما يسمى ظاهرة تعوم العلماء، أي صيرورتهم منقادين للعامة.

 

يتضح تأثير الثقافة والمخيال الشعبي الموروث على مراسيم العزاء الحسيني بصورة واضحة من خلال ملاحظة الاهتمام الكبير الذي عنيت به زيارة الأربعين قياساً بزيارة العاشر من محرم يوم مصرع الحسين وأهل بيته وأصحابه، رغم أن المستندات الشرعية النصية لا تساعد على ذلك ولاتبرره. إن هذا الفارق بالاهتمام يتأكد من خلال ملاحظة أعداد الزائرين والمدة التي يقضونها في المشي من أنحاء العراق المختلفة ومدة الإقامة في مدينة كربلاء التي تحتضن هذه المراسيم والاحتفالات وما يترتب على ذلك تلقائياً من زيادة أعداد المواكب وما يلحقها من رموز بصرية وسمعية إلى غير ذلك مما لا نجد له نظيراً في جميع الزيارات المخصوصة، والتي دل النص الشرعي على استحبابها بعنوانها الخاص، بعد أن توافرت في هذه النصوص جملة الضوابط التي تجعل منها مستنداً مقبولاً يحقق شروط صحة الصدور ووضوح الدلالة وفق الصناعة الفقيهة التقليدية.  

 

في اجتماعية التدين الشعبي

 

 يتفق الدارسون في مجال تاريخ الأديان على مركزية الشعائر أو الطقس الديني، فهو يعد من المكونات الأساسية في كل دين والمعبر عن مستواه الجماعي، ويلعب الطقس أدواراً مهمة في ترسيخ المعتقد وشد الجماعة الى بعضها بما يضفي عليها نوعاً من التميز والاستقلال عن غيرها عبر تعريف رمزي /إشاري يحدد ملامح الهوية بالنسبة للجماعة الاعتقادية.

 وإن الحاجة إلى تأكيد التمايز الهوياتي تنمو وتشتد تبعاً لتغير الظروف التاريخية، وبخاصة منها ظروف الصراع السياسي وما ينتجه من عنف واضطهاد أو تمييز تمارسه الجماعة المهيمنة تجاه الجماعة الخاضعة، لذلك فإن طقس الغالب يختلف عن طقس المغلوب، فكل يحمل من سمات وضعه الاجتماعي وموقعه من هرم السلطة الشيء الكثير.

 من هذا يتبين أن الشعائر/ الطقوس لا تنزل كاملة من السماء ، بل إن اليد البشرية فاعلة في خلقها وابتكارها وإضفاء المبررات التاريخية والغيبية عليها وفق حاجة الجماعة أولا وبما يحقق لها الانسجام ثانياً، هكذا ندرك أن بين النص والتاريخ فاصلة لا يمكن إهدارها.

  الشعائر الحسينية لها تاريخ كغيرها من الشعائر تخضعه أحياناً وتخضع له غالباً، فهو كأي تاريخ مشدود إلى الشرطية الإنسانية ومحدود بحدودها ومتلون بثقافتها المتغيرة عبر الزمان والمكان، ويمكن ملاحظة ذلك بأدنى تأمل لاختلاف التعبير عن كثير من المظاهر الطقسية / الشعائرية تبعاً لاختلاف القومية والإقليم رغم وحدة العقيدة، وهذا لا ينفي بالتأكيد الكثير من مظاهر التعبير المشترك العابرة للأقاليم والقوميات.

 

الشعائر الحسينية.. تاريخية المفهوم والتعبير

 مثلت مأساة كربلاء وما وقع على حفيد النبي وأهل بيته فيها والمجزرة التي ارتكبت بحقهم مع ملابساتها التراجيدية والتي تمثل بحق مشهدية حزن مكتملة الأركان، إضافة إلى ما يمثله الحسين من مكانة رمزية في وجدان المسلمين بوصفه ابن بنت النبي الذي وصى المسلمين بالرفق بأهل بيته واحترام قرابتهم منه وفق المرويات الإسلامية، كل هذه المعطيات مثلت صدمة في وجدان المسلمين جميعاً، ونبهتهم على ما آل اليه واقع الجماعة الإسلامية من ابتعادهم عن المثل العليا التي خلفها لهم النبي بعد وفاته، لذلك أبدى الكثير من المسلمين أسفهم البالغ لما جرى على الحسين وأهل بيته من الظلم، وبلغ عند بعضهم الحزن مبلغاً عظيماً رافقه البكاء المرير مقروناً بشعور الذنب نتيجة خذلانهم هذه الدعوة الإصلاحية واعتبار أنفسهم مسؤولين بصورة أو أخرى عن هذه المأساة، ومن هنا انطلقوا في رحلة التكفير عن الذنب.

  يرى بعض الدراسين لتاريخ العزاء الحسيني أن هذا التاريخ لم يسر على وتيرة واحدة من ناحية اكتمال المفهوم واكتساب الفعل صفة الشعائرية أو من ناحية تنوع مظاهر ممارسة الشعيرة، وبناء على ذلك يمكن أن يتم تحقيب العزاء الحسيني إلى مرحلتين: 

1- العزاء الحسيني العادي

2- العزاء الحسيني بوصفة عملًا شعائرياً وممارسة طقسية.

 

 

العزاء الحسيني العادي

 

في هذه المرحلة والتي أعقبت استشهاد الحسين مباشرة وما شكله هذا الحدث من صدمة وجدانية للمسلمين في مناطق متفرقة حتى سمي هذا العام بعام الحزن دلالة على حجم الأثر الذي تركه في النفوس، بناء على ما ينقله الموفق الخوارزمي (568هـ) حيث يقول ـ: "وذكر أبو علي السلامي،عن البيهقي صاحب التاريخ، أنّ السنة التي قُتل فيها الحسين، وهي سنة إحدى وستين، سمّيت عام الحزن".  كان من الطبيعي وفقاً لذلك أن نرى مظاهر الحزن والبكاء والنحيب وغيرها من ردود الفعل الطبيعية التي يقوم بها أهل الميت وقرابته ومحبيه، من دون أن تحمل تلك الأفعال أي دلالة إضافية تدل على كونها شعيرة دينية يثاب فاعلها ولا ممارسة طقسية تكرارية منتظمة في أماكن وأزمان وأفعال محددة، وإنما هي محض تعابير انفعالية تلقائية تشير إلى الأسى والحزن الذي يشعر به كل من فقد عزيزاً، فكيف إذا حدث ذلك على شكل مجزرة جماعية بحق شخص مثل الحسين وأسرة مثل أسرة النبي، لذلك رافق شعور الحزن والأسى عند البعض شعور الندم نتيجة عدم نصرتهم للحسين، مثل ماحدث لما يسمى بالتوابين الذين مارسوا كثيراً من مظاهر العزاء عند قبر الحسين قبل القيام بحركتهم الثورية، فأقاموا عند القبر وبكوا بكاء مريراً وناحوا وندبوا وحثوا من يريد اللحاق بهم أن يفعل فعلهم في نوع من ممارسة التطهير الجماعي.

 

العزاء الحسيني بوصفه عملاً شعائرياً وممارسة طقسية 

 

 شيئاً فشيئاً، أخذت مظاهر العزاء الحسيني تأخذ طابعاً شعائرياً دينياً نتيجة حث أئمة الشيعة اللاحقين على أهمية هذا الأمر، ولكن هذا الأمر لم يتحول إلى ظاهرة اجتماعيةعامة خلال القرون الثلاث الأولى، فكانت مراسيم العزاء تتلخص في اظهار الحزن وإقامة مجالس العزاء وما يصاحبها من المراثي وزيارة قبر الإمام الحسين وليس أكثر من ذلك.

 فكثير من مظاهر العزاء لم تكن موجودة فيما يسمى بعصر النص خلال القرون الهجرية الثلاثة الأولى ، وفقاً لما يذكره الدكتور حيدر حب الله ، حيث يقول: (ولا يظهر أيّ عين أوأثر تاريخيّاً لفكرة المأتم في مناسبات موت الناس وأقربائهم،أو التطبير، أو حمل الرايات والأعلام واليافطات، أو جعل المدن والقرى والبيوت متشحة بالسواد، أو وضع الأقفال على الأبدان، أو ضرب السلاسل، أو اللطم العنيف المدمي، أو شبه التعرّي، أو المشي على الجمر والنيران، أو الزحف والمشيمشية الكلاب على أبواب المراقد المطهّرة، كما لا يظهر بوضوحتاريخياً أنّ الشيعة كانوا يعتبرون شهر صفر شهر حزن، أوكانت لديهم عشريات أو أسبوعيات للوفيات يلطمون فيها على الحسين أو ما شابه ذلك، بل ولا يبدو أنّ فكرة توزيع الطعام ـفضلاً عن المضائف كان معمولاً بها في المناسبات العزائيّة). 

 

 واللافت في الأمر أن الروايات والوثائق التاريخية تشير إلى أن زيارة الحسين في النصف من شعبان كانت مناسبة حزينة، على عكس ما يجري اليوم من مظاهر الاحتفال والفرح، وهذا ما توضحه لنا رواية عبد الله بن حماد البصري،عن الإمام جعفر الصادق، حيث جاء فيها سؤاله للبصريقائلاً: «.. بلغني أنّ قوماً يأتونه من نواحي الكوفة وناساً منغيرهم، ونساءً يندبنه، وذلك في النصف من شعبان، فمن بينقارئ يقرأ، وقاصّ يقصّ، ونادب يندب، وقائل يقول المراثي»،فقلت له: نعم، جعلت فداك قد شهدت بعض ما تصف، فقال: «الحمد لله الذي جعل في الناس من يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا، وجعل عدوّنا من يطعن عليهم من قرابتنا وغيرهم يهدرونهم ويقبّحون ما يصنعون» ، ويخبرنا التنوخي (384هـ) أنّ هناك شخصاً في بغداد كان يعرف بأنّه ينوح على الحسين وكان اسمه "ابن أصدق"، وأنّه كان في ليلة النصف من شعبان ينعى الحسين ويبكي الناس عند قبر الحسين.

 

الشعائر الحسينية والدولة

 

مع سيطرة السلطنة البويهية على مقدرات الخلافة العباسية في منتصف القرن الرابع الهجري أخذ المأتم الحسيني يأخذ طابعاً رسمياً عاماً. لقد أصبح المأتم الحسيني تقليداً رسمياً عام 352هـ، حيث أمر الحاكم البويهي، معز الدولة الديلمي، الناسَ بإقامة المآتم في الطرق، كما أصبحت إقامة المآتم رسميةً في مصر بعد عقد من الزمن أيام الدولة الفاطمية. كذلك كان لدى حكومات أخرى ميول شيعية، لكن لم يصلنا ما يدلّ على إقامتهم المآتم، لكن ذكر أبو ريحان البيروني وعبد الجبار المعتزلي إقامة المآتم الحسينية في كبرى مدن العالم الإسلامي، وذلك في أيام الدول الشيعية في القرن الرابع والخامس.

 

وبهذا ظهر أوّل تشكّل اجتماعي عام وعلني يحظى بغطاء ودعم من أعلى السلطات في الدولة، وبهذا صارت بغداد تعرف شعيرةً سنويّة في عاشوراء، يتمّ فيها إقامة العزاء ومظاهره في الطرقات والساحات، وأدّى ذلك غير مرّة لمصادمات بين الشيعة والسنّة في بغداد نقلها لنا التاريخ، كما تنقل كتب التاريخ أنّ هذه الاضطرابات تكرّرت أكثر من مرّة وأدّت لحدوث قلاقل في بغداد، مما دفع بعض أمراء آل بويه لمنع خروج المعزّين علناً تجنّباً لوقوع اضطرابات دموية حادّة، ويمكن مراجعة كتاب ابن الجوزي (597هـ) المسمّى بـ"المنتظم" حيث سرد بالتفصيل حوادث عديدة مرتبطة بهذا التاريخ. واستمرّ الوضع على هذه الحال حتى مجيء السلاجقة إلى بغداد أواسط القرن الخامس، والذي عادوا ومنعوا مظاهر العزاء العلنيّة. أمّا في مصر فاستمرّت مظاهر العزاء العلنيّة حتى نهاية الدولة الفاطميّة عام 567هـ، وفعل الأيوبيّون ما فعله السلاجقة من منع مظاهر العزاء.

 

 وبما أن هذه المرحلة شهدت رعاية الدولة للشعائر الحسينية فمن هنا بدأت أشكال أخرى من التعبير الشعائري تظهر إلى العلن، من استخدام الطبول والمزامير والرايات، على اعتبار أن هذه الشعائر كان يشارك فيها العسكر، فادرجت هذه المراسيم العسكرية ضمن الشعيرة العاشورائية، واخذت السلطة البويهية بتوزيع الطعام مجاناً على الناس باعتبار انها أمرت بتعطيل الأسواق في تلك الأيام، فربما يكون ما نشاهده اليوم من توزيع الطعام بالمجان راجع إلى ذلك الأمر الذي قامت به السلطنة البويهية.

 

 وفي عصر الدولة الصفوية في بداية القرن العاشر الهجري، أصبح التشيع المذهب الرسمي، وهمت السلطة بنشر شعائره وتقاليده، فأولى ملوك الصفوية المآتم الحسينية اهتماماً بالغاً، ويقول أفندي ــــــــ أحد مؤلّفي أواخر العهد الصفوي ــــــــ عن المآتم الحسينية: «منذ سنين يقيم ملوك الصفوية المآتم الحسينية على هذا النحو في العشرة الأولى من محرّم، وخاصة في يوم عاشوراء، وذلك في كافة أنحاء إيران».

 

 وينقل الدكتور صالح الجويني شهادة الكثير من السائحين الأوروبيين الذين كانوا شهود عيان على تلك المآتم، فيقول: أما عن المآتم في هذه الفترة، فلدينا أخبار كثيرة وردت عن السائحين الأوروبيين الذين ذكروا المآتم المقامة في ذلك العهد، وبما أنهم كانوا مكلّفين من قبل حكوماتهم بدراسة أوضاع إيران والحكومة الصفوية، أو إعداد تقارير حول بعض التفاصيل، فقد أولوا للمآتم الحسينية التي كانت من التقاليد العظيمة آنذاك اهتماماً كبيراً، فجاؤوا على ذكر تفاصيلها بدقة؛ لذلك تعدّ تقاريرهم من أهمّ المصادر في هذا المجال.

 

 وهنا نورد شهادة أحد هؤلاء السواح كما ينقلها الجويني، فيقول: ولا بأس هنا بذكر نصوص بعض تقارير السياح الأوروبيين في ما يخصّ هذه الطقوس، فيقول "بيتر ودلاواله" الذي زار إيران عام 1618م/1207هـ، في رحلته: تبدأ العشرة الأولى من محرّم، والتي تسمى عاشوراء، بهذا اليوم (الأول من محرّم)، ويقيم الإيرانيون طوال هذه الفترة المآتم ومجالس العزاء، ويحيون ذكرى الحسين (...) وتقاليد العزاء تكون على النحو التالي: يظهر الجميع بمظهر الحزن والألم، مرتدين زيّ الحداد باللون الأسود، اللون الذي لم يستعمل في المناسبات الأخرى. ولا يحلق أحدٌ رأسه أو ذقنه ولا يستحمّ، ويجتنبون المعاصي والمنكرات، وحتى الملذات.. وتجول جماعة أخرى في الساحات والأزقة وبين بيوت الناس عراةً، إلّا من قطعة قماش سوداء تستر عوراتهم، طالين أجسادهم بمادّة سوداء، كالتي نستعملها لطلي غلاف السيوف أو المعادن الأخرى، ليعبّروا بذلك عن مدى حزنهم وألمهم لمصاب الحسين. وترافق هؤلاء مجموعة أخرى عراة، طالين أجسادهم باللون الأحمر، دلالةً على الدماء المسفوكة والأعمال الشنيعة يوم عاشوراء، وينشد جميعهم ألحاناً حزينة في ذكر الحسين والمصائب التي حلّت به، حاملين قطعتي خشب أو عظام بأيديهم، فيضربون إحداها بالأخرى؛ لتصدر أصواتاً حزينة. كما يقومون بحركةٍتشبه الرقص تدلّ على حزنهم العميق، ويمدّون أوانيهم أمام الناس المحتشدين حولهم؛ فيتصدّق الناس عليهم بإلقاء النقود فيها، ويعتلي الخطيب المنبر وقت الظهر في وسط الساحة التي يحتشد الناس فيها، وغالباً ما يكون هذا الخطيب من سلالة محمد، ويسمّى في إيران سيداً، ويميّزه عن الآخرين عمامته الخضراء، يسمّى هؤلاء الأشخاص في تركيا أميراً، وفي مصر شريفاً، لكن خلافاً لتركيا ـ حيث يلبس أعقاب محمد العمامة الخضراء دوماً ـ لم أر أحداً واضعاً عمامةً بهذا اللون على رأسه إلا في هذه المراسم.

 يشرف المنبر على جميع النساء والرجال الحاضرين، حيث يجلس بعضهم على لأرض ويجلس آخرون على كراسي صغيرة، فيعتلي الخطيب المنبر ويرثي الحسين، ويبيّن الحوادث التي أدّت إلى قتله، ويقوم ببعض الحركات أحياناً، ويبذل قصارى جهده ليبكي الحاضرين أكثر ما يمكن، وتقام هذه المجالس نهاراً في المساجد، وليلاً في الأماكن العامة أو في بعض البيوت التي تُعرف بأنوارها الكثيرة والأعلام السوداء ووشاح المآتم، وتقرأ المراثي بحماس أكبر، ويبكي المستمعون وينوحون بأصوات عالية، وتلطم النساء صدورهنّ، ويكرّر الجميع بحزن عميق المقطع الأخير من القصائد التي تقرأ، ويرددون: آه حسين ـ الملك حسين.

 وحين يحلّ العاشر من محرم، أي يوم قتل الحسين ـ الذي صادق هذا العام الثامن من كانون الثاني ـ تنطلق مواكب كبيرة  من كلّ أنحاء إصفهان، كما وصفت ذلك سابقاً في يوم قتل علي، حاملين الأعلام والبيارق واضعين أصنافاً من الأسلحة وعدداً من العمائم على جيادهم، مصطحبين عدداً من الجمال تحمل كلّ منها صندوقاً فيه ثلاثة أو أربعة أطفال؛ للتذكير بأطفال الحسين الذين أسروا في ذلك اليوم، كما تحمل كلّ مجموعة تابوتاً ملفوفاً بمخمل أسود وعليه سيفٌ وعمامة خضراء عادة، وحول التابوت أصناف من الأسلحة ـ كما شرحت مسبقاً ـ على عدّة أطباق، تحمل فوق رؤوس عدد من الأفراد الذين يقفزون ويدورون على صوت الطبل والناي، فيدور الطبق معهم ويصنع منظراً جميلاً. 

 

 هذه الشهادة التي نقلناها تحكي لنا عن معطيين في غاية الأهمية، أولها أن إقامة المآتم الحسينية كان في الظاهر مقتصراً على الأيام العشرة الأولى من شهر محرم إلى هذه الفترة ولا يتعداها إلى غيرها بحسب الشهادة، وثانيها أن مظاهر أخرى من التعبير الشعائري قد أضيفت في عصر الصفوية، مثل التشابيه، وطلي الجسم بمواد مختلفة، والتعري، وغيرها مما لم يكن مألوفاً فيما سبق.

 ويشير الشيخ يوسفي الغروي أن التطبير نشأ أيضاً في عهد الدولة الصفوية، وأصل العمل مأخوذ من تنظيمات الجيش العثماني التي كانت تحوي فرقة عسكرية تسمى (الفدائيين)، وأفراد هذه الفرقة هم من مجهولي الأب أو ما يدعون باللقطاء ويتم اختيارهم من الطفولة ويتم تدريبهم ليشكلوا فرقة فدائية خاصة بالسلطان العثماني، ويكونون محتزمين بأكفانهم ويجردون رؤوسهم كناية عن استعدادهم لفداء السلطان، واقتبست الدولة الصفوية هذا الأمر من السلطة العثمانية وشكلت فرقة مشابهة لها، وكانت هذه الفرقة تشارك في مراسيم العزاء، وفي سياق من التنافس الاجتماعي، قامت هذه الفرقة بالتعبير عن مشاركتها بالعزاء بطريقة الضرب بالقامة على الرأس.

إن سياق التطور التاريخي للشعائر من عصر النص إلى عصر الدولة الصفوية، يؤكد على الدور البشري في صناعة الكثير من المظاهر الطقسية العاشورائية وما يرتبط بها من مفاهيم، وهو هدف المقال وما سعى لتأكيده، وليس هدفة سلب الشرعية عن هذه الممارسة الشعائرية أو تلك أو الطعن والتشنيع على من يقوم بها. 

 

 الشعائر الحسينية ما بعد 2003

 

    مظاهر العزاء التي نراها اليوم هي وريثة لكل ذلك التاريخ، والذي كان محكوماً بعوامل السياسة والاجتماع، فلا يبعد أن تتشكل مظاهر طقسية جديدة وليس الإشكال في نفس هذا الابتداع الجديد للوسائل العزائية فهذه ظاهرة إنسانية طبيعية وإنما في تحديد مدى ملائمة هذه الوسيلة للهدف الذي تخدمه بالشكل الذي يحررها من كل أنواع الاستثمار السياسي، فبعد الانفراجة التي حدثت للجماعة الشيعية بعد سقوط النظام الديكتاتوري والذي كان يقيد كثيراً من هذه المراسيم، يرى كثير من المراقبين للوضع السياسي أن السلطة الجديدة لا تبدي أي معارضة لهذه المراسيم ما دامت لا تشكل تهديداً لها، بل تحاول أن تظهر بمظهر المؤيد لها كي ترمم شرعيتها المنقوصة بادعاء توفير غطاء من الحرية للممارسة هذه الشعائر المحايدة.

 

حيدر اللطيف كاتب عراقي

نُشرت في الجمعة 23 أغسطس 2024 03:21 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية

© 2024 الجبال. كل الحقوق محفوظة.