هو لا يميل الى المشكلاتِ او الاحتكاك بمفتعليها، إلا أن سعال ابنته ذات 9 سنوات أجبره أن يكون طرفاً في مشاجرة كلامية، مع مُدخن لم يرضَ بإطفاء سيجارته، أو يؤجل تدخينه لحين وصول سيارة الأجرة للأب وابنته.
أبو رانيا – أب لطفلة متضررّة من دخان السجائر - روى بنبرة ملؤها الحسرة: "لا اعترض على ولادة ابنتي وهي حاملة لمرض الربو، خلافي الوحيد مع عديمي الإحساس من المدخنين الذين لا يأبهون لصحة من يجلس بجوارهم". ثم أردف بالقول: "ليكن شرهم عليهم فقط، لا يشملوا به الابرياء".
مجلس النواب العراقي يقرأ هذهِ الحالة بنظرة عمومية، ويسعى الى إصلاح الامر بخطوات قانونية. ورغم أنه وصل متأخراً، إلا انه يسير بخطى جادة نحو وضع حد لـ"لفافة الموت البطيء".
ومسودة تعديل قانون "مكافحة التبغ" على طاولة البرلمان من جديد، رغم أن القانون أُقَرّ عام 2012، إلا أنه لم يُفعَّل حتى الآن.
التدخين مُحاصر قانونياً
في هذا السياق، يؤكد النائب باسم الغرابي، عضو لجنة الصحة والبيئة النيابية، في تصريح خصّ به "الجبال" أن "القانون الذي يحمل الرقم 19 بصيغته الحالية لم يعد كافياً لمواجهة الواقع الجديد، موضحاً أن "القانون أُقرّ في وقت كانت فيه أنواع التدخين محصورة تقريباً في التبغ التقليدي، أما اليوم فقد دخلت إلى العراق وسائل تدخين حديثة كالأجهزة الإلكترونية و(الفيب) و(الشيشة الذكية)، وهي وسائل لا تتوفر عنها دراسات كافية او تقارير طبية تحدد مدى ضررها أو سُميتها، لكنها تُستخدم على نطاق واسع".
وأشار الغرابي إلى أن "هذه التعديلات تأتي في مرحلة مناقشات مستمرة داخل اللجنة البرلمانية، بعد أن تم الانتهاء من القراءة الأولى للقانون، تمهيداً لعرضه في جلسة القراءة الثانية".
وأضاف: "ندرس الآن الخيارات المتاحة، هل سيتم منع هذه الوسائل الإلكترونية كلياً، أم حظرها جزئياً، أم تقنينها ضمن أطر ضريبية وتنظيمية؟. لكن ما هو محسوم الآن هو فرض رسوم استيراد جديدة، بغية تقنين الكميات الهائلة من هذه الأجهزة التي تدخل عبر الحدود العراقية".
كما كشف الغرابي أن "التعديلات ستتضمّن مادة صريحة تمنع التدخين داخل جميع دوائر الدولة، بالإضافة إلى فرض غرامات مالية على من يدخنون في الأماكن المغلقة والمطارات، حتى وإن كانت مخصصة للتدخين، موضحاً: "هناك غرف تدخين حالياً، لكنها غير صالحة ومخالفة للمواصفات العالمية المعمول بها، وبالتالي لا يمكن القبول باستمرارها على هذا النحو".
من جانبه، أوضح عمار العبودي، مستشار لجنة الصحة والبيئة في مجلس النواب، أن "القانون السابق لم يكن منسجماً مع الاتفاقية الإطارية الدولية لمكافحة التبغ، التي انضم إليها العراق منذ عام 2007".
وقال العبودي: "الاتفاقية تضع معايير واضحة تتعلق بالسيطرة على التبغ، كرفع الضرائب، وضع التحذيرات الصحية، وتحديد أماكن التدخين، وهي معايير لم تكن موجودة بالكامل عند تشريع القانون السابق".
وشدد العبودي على أن "التعديل الجديد سيتضمن تغطية شاملة لجميع أشكال التبغ والوسائل المستحدثة"، قائلاً: "بغض النظر عن الشكل أو الاسم، فجميعها تحتوي على التبغ، ولذلك سيشملها القانون بصيغته المعدلة".
وأكد أن "جوهر فلسفة القانون لا يهدف إلى تجريم التدخين، بل إلى حماية غير المدخنين وضمان ألا تتعدى حرية الفرد على صحة الآخرين، موضحاً: "لن نمنع التدخين تماماً، لكننا سنضع قيوداً صارمة على أماكنه. القانون الجديد يمنع التدخين منعاً باتاً في أي مكان مغلق، سواء كان مؤسسة حكومية أو اهلية أو عامة، وعلى المدخن أن يغادر هذه الأماكن ويتوجه للتدخين في بيته أو في أماكن مفتوحة".
وأشار إلى أن "العقوبات ستشهد تصعيداً كبيراً ضمن القانون الجديد، إذ سيتم رفع الغرامة المفروضة على المخالفين من 10 آلاف دينار عراقي إلى 50 ألف دينار، كما ستُمنح صلاحية فرض الغرامات لرؤساء الدوائر والمؤسسات".
مشرط بيدٍ.. وسيجارة بالأخرى
وفي وقت تشير فيه تقارير وزارة الصحة إلى أن الأمراض المرتبطة بالتدخين، كأمراض الجهاز التنفسي وسرطان الرئة، أصبحت من بين الأسباب الرئيسية للوفيات في العراق، تتصاعد التحذيرات من التساهل في تطبيق قوانين مكافحة التبغ، خاصة داخل المؤسسات الصحية التي من المفترض أن تكون القدوة في هذا المجال.
عضو لجنة الصحة والبيئة النيابية، زينب الخزرجي، أبدت قلقها من ذلك مؤكدة أن "التدخين في مؤسسات الصحة، يدل على ضعف الوعي الصحي وعدم الاكتراث بصحة المواطنين".
وقالت الخزرجي في تصريح لمنصّة "الجبال" أن "أسفي على بعض الكوادر الطبية، من أطباء ومهنيين وصيادلة وموظفين، لانهم يمارسون التدخين داخل دوائرهم، وهذا يُقوّض جهود التثقيف الصحي ويضعف ثقة المواطن بالجهات الصحية نفسها. لهذا السبب، نحن في لجنة الصحة والبيئة ناقشنا بجدية تعديل قانون مكافحة التبغ، وسنعمل على تشريعه بما يضمن منع التدخين بشكل صارم داخل جميع دوائر الدولة، وعلى رأسها دوائر الصحة في عموم العراق".
وأشارت الخزرجي إلى أن "التعديلات ستتضمن غرامات مالية وعقوبات إدارية تصل إلى التوبيخ والانقطاع عن الدوام لكل من يثبت تجاوزه القانون، سواء في القطاع الحكومي أو الخاص"، قائلة: "نحن نهدف إلى خلق بيئة خالية من التبغ في المؤسسات التي يُفترض بها أن ترعى الصحة لا أن تتسبب في الإضرار بها".
حين يصبح التبغ لعبة أطفال
بكلمات تحمل مرارةَ التجربة وحرقة الواقع، عبر جمال الطائي، وهو ناشط بيئي، عن قلقه المتصاعد إزاء ظاهرة التدخين التي لم تعد محصورة بين الكبار، بل تسللت إلى أصابع الصغار، حتى صار مشهد طفل لا يتجاوز العاشرة وهو يشعل سيجارة إلكترونية، واقعاً يومياً يثير الصدمة أكثر من الدخان نفسه.
يقول الطائي: "نحن كنشطاء ومراقبين للوضع البيئي نرى أن هذا القانون جيد، لكن الأمل الأكبر أن يتم تطبيقه لا في الدوائر الحكومية فقط، بل في كل الأماكن العامة والمستشفيات والمرافق الترفيهية، فحالات التدخين بمختلف أشكالها بدأت تتفاقم، لا سيما بين المراهقين، وهذا مؤشر خطير بيئياً وسلوكياً".
ويتابع: "ما رأيته أمس من طفل يحمل سيجارة إلكترونية ويتعامل معها وكأنها لعبة، يكفي ليجعلنا نصرخ بوجه هذا الاستهتار الصحي. هذه الظاهرة ليست مجرد عادة سيئة، إنها اعتداء على الهواء المشترك، على المرضى، وعلى الأصحاء. وقد أظهرت تقارير وزارة الزراعة استيراد كميات مهولة من السجائر والمعسل، ما يُشير إلى حجم المشكلة الذي تجاوز الإدمان الفردي ليصبح اقتصاداً موازٍ للصحة العامة".
ويختم الطائي: "نحن نرفع الصوت باسم البيئة، وباسم الإنسان، ونطالب بتطبيق هذا القانون الآن... لا غداً".
وفي موقف يعزز تطلعات الناشطين والمهتمين، أكد مدير عام دائرة الإعلام والتوعية في وزارة البيئة، أمير علي الحسون في تصريح لمنصّة "الجبال" : أن الوزارة تقف بكل أدواتها خلف هذا القانون. وقال: "هذا القانون نعده من أبرز الخطوات التي تأخرت كثيراً. فالتصنيع التبغي اليوم لم يعد محصوراً بالمقاهي والأماكن المفتوحة، بل تسلل إلى مؤسسات الدولة الرسمية، وهو ما يشكل خطراً مزدوجاً، طبياً وبيئياً".
وأضاف الحسون: "نحن في الوزارة ندعمه إعلامياً وقانونياً وفنياً، وبدأنا فعلياً بإطلاق حملات توعية بهدف ترسيخ ثقافة الالتزام بهذا القانون، والارتقاء بوعي المجتمع تجاه أضراره".
تدخين مؤدب
قضية التدخين لا تنحصر فقط في حدود الصحة، بل تندرج ايضاً ضمن "الإتيكيت"، إذ يسخر البعض من فكرة ان تكون مدخناً غير مؤدبٍ.
مهدي سليم، متطوع في منظمات بيئية غير ربحية، يعلّق: "إحدى أهم النقاط التي يركز عليها هذا القانون هي أنه يساهم في رفع الوعي بين المدخنين حول ضرورة مراعاة الإتيكيت والآداب العامة، إذ يفتقر بعض الأفراد إلى الثقافة التي تعترف بتأثير التدخين على صحة الآخرين".
وبحسب سليم، فإن "حوالي 70% من غير المدخنين يُعتبرون في خطر مماثل للمدخنين بسبب تعرضهم المستمر لدخان السجائر في الأماكن العامة. ولذلك، فإن القانون المعدل سيعزز من ثقافة عدم التدخين في الأماكن المغلقة وسّيُفضي إلى تحسين الذوق العام، حيث سيشجع على توفير بيئة صحية للجميع".
وتوقع سليم أن "يكون لهذا التعديل تأثير صحي بالغ الأهمية، قد يصل إلى تقليل نسبة التدخين في الأماكن العامة بنسبة تصل إلى 20%، مما سيكون له تأثير مباشر في تقليص الأمراض التنفسية بين المواطنين".
من جهته، يعلّق محمد النواب، خبير إتيكيت ومدرب علاقات عامة، على التعديل المقترح لقانون مكافحة التدخين قائلاً: "عند مراجعة مسودة تعديل قانون التدخين، نجد أن هذا التعديل يتناول ثلاثة محاور رئيسية: هي المحور الصحي، المحور الاقتصادي، بالإضافة إلى سلوكيات التدخين التي ترتبط بشكل مباشر بمفهوم الإتيكيت".
ويشرح النواب أن "القواعد الأساسية التي يطرحها التعديل الجديد تستهدف تقليل الأضرار المادية والمعنوية التي يسببها التدخين في الأماكن العامة، ويعتبر أن هذه القواعد ضرورية لتحسين سلوك المدخنين أثناء تواجدهم مع الآخرين".
ويشير النواب إلى "عدد من القواعد الجوهرية المتعلقة بالإتيكيت والتي تم تضمينها في هذا التعديل، مثل: أنه يجب الامتناع عن التدخين أثناء الاجتماعات أو على الطاولات المخصصة للطعام، وكذلك عدم التدخين في الأماكن التي تشهد تجمعات كبيرة، مثل المرافق العامة، وذلك مراعاةً للخصوصية والسلامة الصحية للآخرين".
ويتحدث النواب عن أهمية تلافي التدخين أمام الأطفال وكبار السن والنساء الحوامل، قائلاً: "يجب على المدخن أن يحترم خصوصية هؤلاء الأفراد، الذين يشكّل التدخين لهم خطراً صحياً مضاعفاً"، مشدداً على "ضرورة أن يكون المدخن أكثر احتراماً للمحيط الذي يتواجد فيه، وأن يتجنب التدخين أثناء السير مع الآخرين، سواء كانوا من الرجال أو النساء، وذلك تأكيداً على القيم الاجتماعية السليمة والإتيكيت المتبع".
ومن النقاط الهامة التي يبرزها النواب هي "ضرورة الاستئذان قبل التدخين في الأماكن العامة"، حيث يجب على المدخن أن يأخذ إذن من الأشخاص غير المدخنين قبل إشعال سيجارته، وذلك لضمان أن يتواجد المدخن في مساحة مناسبة دون أن يسبب إزعاجاً أو ضرراً لغير المدخنين.
هذا النوع من السلوك يعكس احترام الخصوصية والاعتبارات الصحية، وهو جزء أساسي من التعامل مع الآخرين بأسلوب حضاري.
نَفَسان مختلفان
رغم ان السيجارة تُعدّ الرفيقة الوفية للمدخن، وعكازة المزاج، إلا أنه لا ينكر غدرها وضررها عليه عند الحاجة لنطق الحقيقة.
يعترف عباس هاشم، وهو مدخن منتظم، أن "المدخن اليوم لا يجد حرجاً في إشعال سيجارته في أي مكان، سواء كان شارعاً، أو مؤسسة حكومية، أو حتى داخل سيارات النقل المشترك".
ويرى هاشم أن "المشكلة لا تتعلق فقط بغياب القانون، بل أيضاً بانعدام ثقافة الامتناع عن التدخين في أماكن محددة، وهو ما يتطلب وعياً مجتمعياً موازياً للتشريع".
ويؤكد هاشم أن "المدخنين، بوصفهم مدمنين على مادة النيكوتين، لا يمكن التعامل معهم بمنطق المنع التام، بل ينبغي التفكير بحلول واقعية، كتخصيص أماكن للتدخين تتيح للمدخنين ممارسة عادتهم دون التسبب بأذى للآخرين".
في المقابل، يؤكد أحمد عصام، وهو غير مدخن، دعمه لهذا التوجه، لكنه يشير في الوقت نفسه إلى أن "الجهد التشريعي ينبغي أن يوجّه بشكل أوسع إلى قضايا أكثر إلحاحاً تمس حياة المواطنين بصورة مباشرة، كفرص العمل، وتحسين جودة التعليم، وتطوير الخدمات الصحية".
ويضيف عصام: "رغم أن التدخين سلوك غير حضاري، إلا أن هناك أولويات تشريعية أخرى تستحق الاهتمام حالياً من قبل مجلس النواب، لأنها تحقق أثراً أكبر على المدى القريب في حياة الناس".
قانون رفاهية في واقع معقد
بضحكة متهكمة ونبرة لا تخلو من التحدي، يروي كامل عبود – موظف حكومي ومدخن منتظم منذ أكثر من عقدين – موقفه الرافض للتعديلات المقترحة على قانون مكافحة التدخين، قائلاً: "هذا القرار لا يعنيني. لن ألتزم به، لأن السيجارة لم تعد عادة أو ترفاً، بل أصبحت جزءاً من كياني، كأنها الهواء الذي أتنفسه. إنها الإدمان بعينه، لا مجرد لفافة تبغ".
يتحدث كامل عن بداياته مع التدخين، مسترجعاً أولى لحظاته مع السيجارة: "أشعلت أول سيجارة في حياتي عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري. واليوم، وقد تجاوزت الأربعين، يريدون مني أن أُطفئها لأنهم قرروا فجأة أن يفرضوا قانوناً؟ أين كانوا طوال هذه السنوات؟".
ويتابع: "القانون بالنسبة لي لا يعبر عن أولوية حقيقية. في بلدٍ تملؤه الأزمات، تصبح السيجارة المتنفس الوحيد، ويريدون الآن أن يسلبوه منا؟ دعوهم يفرضون ما يشاؤون، أما أنا فسأواصل التدخين، لا عناداً، بل لأنني ببساطة غير مقتنع".
ويختم حديثه بتساؤل يحمل في طيّاته مرارة السخرية: "إذا كان الدخان يملأ الشوارع، والسياسيون يدخنون في قاعات الاجتماعات، فلماذا تُصبح سيجارتي أنا الجريمة؟ دخنّها وسلملي على القانون!".
وفيما تتباين المواقف بين من يرى في تعديل قانون مكافحة التدخين خطوة صحية وثقافية، ومن يطالب بتنظيمه دون تقييد، يبرز صوت آخر أكثر تشككاً في جدوى التشريع.
في هذا السياق، يرى الناشط الاجتماعي، عمر عبد اللطيف، أن "القانون رغم نواياه الحسنة، يبقى تشريعاً ثانوياً كمالياً لا ينسجم مع الواقع العراقي الراهن". ويقول: "ما قيمة هذا القانون إذا لم تتوفر له آلية تطبيق واضحة؟ من سيحرر الغرامات؟ وهل سيتمكن الموظف من مخالفة زميله أو مديره؟" ويطرح أسئلة تمس صميم التطبيق: "هل يعقل أن يلتزم المواطن بقانون لا يشعر بجدّيته؟ وكيف نتوقع من موظف أن يعاقب نفسه أو من تربطه به علاقة مهنية أو اجتماعية؟".
عبد اللطيف يشكك بإمكانية تنفيذ القانون على أرض الواقع، ويرى أن "العراق لا يزال يفتقر إلى البنية القانونية والإدارية القادرة على فرض هذا النوع من القوانين التي تمس تفاصيل الحياة اليومية والعادات المتجذرة". ويضيف بحزم: "نحتاج إلى سنوات ضوئية من التهيئة والتوعية وربما إلى أولويات تشريعية تمس المواطن بشكل أعمق، مثل الصحة، البطالة، والتعليم".
ويختم عبد اللطيف: "أعتقد ان القانون يقف في منطقة رمادية، لا هو قادر على الإقلاع، ولا المجتمع مستعد تماماً لاستقباله. وفي نظري، سيبقى معلقاً في فضاء دخاني، وسيكون مجرد نص جديد يضاف إلى أرشيف القوانين غير المطبقة واقعياً".