الاختلاف والقبول بالتنوّع في العراق

5 قراءة دقيقة
الاختلاف والقبول بالتنوّع في العراق هجوم على المحتفلين بعيد "أكيتو" في دهوك (فيسبوك)

الهجوم الإرهابي الذي وقع في احتفالية بعيد الأكيتو للآثوريين في دهوك وخلّف بعض الجرحى قبل القاء القبض على المنفّذ، أثار من جديد فكرة تقبّل الآخر المختلف، والقبول بالتنوّع، الذي هو أساس كل المجتمعات الحيّة في العالم اليوم.

 

في اليوم نفسه الذي قرأت فيه الخبر الصادم ظهرت لي في المنشورات العشوائية على مواقع التواصل معلومات عن التنوّع في جمهورية نيجيريا، وكيف أن بها 500 لغة محليّة والعشرات من الثقافات المحليّة، ومع ذلك فهي دولة تعتبر من أقوى الاقتصادات في أفريقيا. والسبب طبعاً أن هناك مستوى من التعايش والقبول بالمختلف في هذه الدولة التي لا تظهر أخبار كثيرة عنها في النشرات اليومية، ربما بسبب قلّة مشاكلها.

 

يتخيّل الكثير من أولئك الذين لا يتقبلون الاختلاف ويخافون من التنوّع، أن مجرد القبول بهذه الحقيقة الاجتماعية والثقافية والسياسية يعني التخلي عن الهوية. وكأن بقاء الهوية ودوامها يعني قمع الآخر وإخفائه ودفعه بعيداً عن الفضاء العام، بحيث نتضايق من فعالياته الدينية والاجتماعية كما هو عيد الأكيتو القومي، الذي يستذكر الحضارات الرافدينية الأولى واحتفالها بعيد الربيع في الأول من نيسان من كلّ عام. فهو ليس عيداً مسيحياً أصلاً وإنما رافديني عراقي قديم.

 

وقبلها، هناك من تضايق من الاحتفال بعيد نوروز، واعتبره ليس عيداً شرعياً، وكأن العالم مجبر على اعتماد المنظور الأصولي الضيّق، الذي يفقر المجتمعات ويحرمها من التواصل مع إرثها الثقافي والحضاري.

 

في الحقيقة أن السيطرة على الفضاء الاجتماعي العام لا يحمي الهوية، وإنما يخلق عداوات أكثر مع أصحاب هذه الهوية، ويظهرها بمظهر سلبي. ويعطي فرصة للمرائين والمنافقين في استعمال هذه السطوة لأغراضهم الشخصية.

 

ويغدو الأمر أكثر تعقيداً حين تتدخل الدولة أو تسمح بهذه الانتهاكات لحقوق المواطنين، كما حدث في موسم رمضان الماضي، حيث تحوّلت سياسات منع الإفطار العلني في بغداد وبعض المحافظات إلى فرصة لإذلال المفطرين، متجاهلين حقيقة أن الصوم عبادة شخصية وليست جماعية، كما صلاة الجمعة أو الحجّ مثلاً. وأن لا أحد مسؤول عن هداية الآخرين، وأن الإيمان مسألة قلبية، والقرآن نفسه يقول "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" أو "فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ۝ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ".

 

أن الدولة ليست مسؤولة عن إدخال المواطنين الى الجنّة، وإنما مسؤوليتها تقديم الخدمات وحفظ الأمن العام، وحسن تطبيق القوانين.

 

وأن الدولة بمواردها وسطوتها حين تسمح بتفضيل فئة من المواطنين على غيرهم، وأن قناعاتهم الدينية هي من يجب أن تسود في الفضاء العام على حساب القناعات الأخرى، فهي تسهّل نمو وتفرعن كل عمليات الاقصاء والتهميش.

 

وإن كان هناك من يتحجّج مثلاً أن منفّذ العمل الارهابي في دهوك ليس عراقياً وإنما سوريّ الجنسية، فعلينا أن نتساءل لماذا لم نشهد احتفالاً جماهيرياً مشابهاً في بغداد أو غيرها من مدن العراق التي يُفترض أن فيها مواطنين عراقيين سريانيين بمختلف طوائفهم المسيحية.

 

أن فهمنا للعراق وهويته الحضارية سيكون معطوباً بشطب الجزء المسيحي منه، والدولة التي تريد إنعاش الهوية العراقية وتطويرها يجب أن تسمح لعناصر الثقافة المسيحية العراقية بالحضور في إطار الهوية العامة للدولة.

 

600 سنة على الاقل من تاريخ العراق كان مسيحياً خالصاً، وهذه القرون كانت حلقة وصل أساسية بين العصور الرافدينية القديمة والعصور الإسلامية، بل أن ازدهار الإسلام في العراق وتحوّله الى قطب الرحى لم يكن بعيداً عن الأرضية المسيحية القائمة في البلد أصلاً، من مدن وبلدات وقرى وسجالات لاهوتية، وجهد ترجمة هائل قام به السريان العراقيون من اللغات المختلفة الى العربية.

 

إن حماية هذا التراث ومختلف عناصر التنوّع الثقافي التاريخي الأخرى يبدأ من نقطة أساسية؛ التثقيف العام بقبول التنوّع، وأن الهويات لا تحمي نفسها بالقهر واضطهاد المخالفين، وإنما بالانفتاح والحوار والتفاعل.

 

 

أحمد سعداوي كاتب وروائي

نُشرت في الجمعة 4 أبريل 2025 11:30 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.