في التسعينيات من القرن الماضي وربما قبلها كانت نقاشات النخب الثقافية العراقية تستفيد من تيارات الفلسفة الجديدة ونظريات النقد الثقافي لتحليل وضع العراق والمنطقة، وكان التركيز في بعض النقاشات ينتهي أحياناً، بالاستفادة من أطروحات ميشيل فوكو وأدوارد سعيد، الى نقد ما سمّي بـ(المركزية العربية)، والمقصود بها؛ أن هناك مركزاً ثقافياً في قلب الوجود الاجتماعي والسياسي للمنطقة العربية، أساسه القيم العربية التقليدية والثقافة الاسلامية السنيّة.
هذه المركزية العربية أقصت إلى الهامش مكوّنات أخرى لا تتطابق معها، أو فرضت عليها الامتثال لأعرافها، مثل القوميات المغايرة من كرد وتركمان وسريان، في العراق وسوريا، والأمازيغ في شمالي أفريقيا، أو على أساس ديني وطائفي كما الشيعة والبهائية والأيزيدية والشبك ومختلف الطوائف المسيحية في العراق، والأقباط في مصر.
كان الخطاب المضاد الذي يواجه هذه المركزية العربية يدفع باتجاه تبني فكرة المساواة والعدالة، واحترام الاختلافات، وفي القلب من هذا الخطاب المضاد والمعارض كان هناك عصب أساسيّ إسمه: الديمقراطية.
فالديمقراطية وحدها من تحفظ للجميع، أغلبيات وأقليات، حقوقهم، وتجعلهم يشعرون بأنهم أبناء بلد واحد. ولكن المقصود بالديمقراطية هنا ليس مجرد آليّة الاقتراع، وإنما قوانين ومنظومة مؤسسات تمنع احتكار السلطة في يد مجموعة دون أخرى، وتمنع بناء مركزيات جديدة تفرض هيمنتها على الآخرين.
عقب 2003 انتعشت النقاشات أكثر، مستفيدة من أجواء الحريّة الجديدة، وكانت بعض النخب تعيد النظر في مسألة الهويات الفرعية التي خرجت الى السطح بقوّة وعنفوان، وكان هناك من يعيد قراءة الهوية الشيعية مثلاً، من وحي مركزية العنصر العربي والعراقي فيها، في محاولة لوضع فاصل ما بين الشيّع العراقي والتصورات الايرانية ذات البعد العولمي، الذي لا يعترف بالحدود والأوطان، كما هي التصورات السلفية الجهادية مثلاً، على الجانب السنّي.
ولكن النخب السياسية الحاكمة لم تكن مهتمة بهذه النقاشات، ودفعت الأحداث على الأرض باتجاه انشاء مركزية شيعية، أزاحت جميع الأطراف العراقية الأخرى الى الهامش، وهي مركزية استعادت أسوأ ما في المركزية العربية السنيّة، التي كان المثقفون يتناولونها بالنقد في التسعينيات.
المركزية الشيعية الجديدة لا تملك مقوّمات أن ترسي نفسها على أرضية وطنية، وإنما بالاتكاء على مركزية موجودة أصلاً، وكانت كذلك منذ 400 سنة ماضية؛ ألا وهي المركزية الشيعية الإيرانية.
تنظر المركزية الإيرانية إلى الشيعة خارج إيران على أنهم امتداد ثقافي وعقائدي وسياسي، وليسوا نظراء أو مكافئين لها. وهي مركزية مخلوطة بالهوية الوطنية الإيرانية. فهي كانت حاضرة حتى قبل نظام ولاية الفقيه الحالية، وستبقى هكذا حتى مع أي تحولات سياسية قادمة. وهناك نقاشات دائرة بين النخب الإيرانية منذ عقود عن حدود الديني والمذهبي بإزاء الوطني والقومي في هوية الدولة الإيرانية، وعلاقة ذلك بشعوب الدول المجاورة.
أما في العراق فإننا لسنا بحاجة الى استعادة النقاش حول "التشيّع العراقي" وذاك الفارسي أو اللبناني أو غيره، وسيكون من التدليس إعادة النقاش حول "المركزية العربية السنّيّة" اليوم مع غضّ البصر عن المركزية الشيعية الضاغطة بقوّة على الوضع العراقي.
إن ما ينفع العراق هو استعادة حلم الديمقراطية وقدرتها على تحقيق العدالة والمساواة بين كل المجموعات السكانية العراقية، بمختلف خلفياتها العرقية والدينية، وأن الأغلبيات والأقليات القومية أو المذهبية هي مجرد مصادفات، ولا ترتّب استحقاقاً يجعل مواطناً أعلى وأكثر قيمة من مواطن آخر.
الأغلبيات الأكثر فاعلية هي تلك التي تتشكّل داخل العملية السياسية، وهي أغلبيات متحرّكة وليست ثابتة، اساسها المنهج والرؤية السياسية لا مجرد أنك من هذا المذهب أو تلك القومية.
إن التعاطف بل وحتى التعاون بين كرد العراق وأخوانهم في الدول المجاورة، أو ما يشبهه بين شيعة العراق والشيعة في المحيط، أو شعور العراقي السنّي بالانتماء الى أمّة سنية عربية كبيرة، ليس خطيئة، إن كان لا يتعارض مع المصلحة الوطنية، بل يمكن أن يكون مصدر قوّة للعراق وتاثير ايجابي على المحيط.