في مساء الثاني عشر من تموز/يوليو الماضي تظاهر أبناء قضاء غماس، جنوبي غرب الديوانية، احتجاجاً على تردي التيار الكهربائي. في البداية أحرقوا الإطارات عند مدخل دائرة توزيع الكهرباء في القضاء، رددوا الأهازيج والهتافات وظلوا في أماكنهم حتى أعياهم التعب، فجلس بعضهم على الأرصفة وآخرين انسحبوا تدريجياً نحو منازلهم، لكن سرعان ما عاد المحتجون المرهقون بشكل مفاجئ لساحة التظاهرات وبإعداد مضاعفة؛ لأن بيوتهم "بلا كهرباء".
مطاردة بين الأزقة
كان ذلك الاحتجاج، هو الخامس في غماس خلال هذا الصيف، ولم يلمس السكان أي تحسن في ساعات التجهيز، قرّر الشباب عقب ذلك التصعيد والتوجه نحو الشارع العام الرابط بين النجف والديوانية، وقطعوه بالإطارات المشتعلة.
في صباح اليوم التالي؛ أرسل محافظ الديوانية عباس شعيل الزاملي قوات أمنية من مركز المحافظة إلى غماس، قمعت المتظاهرين بالرصاص الحي والغاز المسيل للدموع وفرقتهم، وطاردتهم في الشوارع والأزقة والبساتين، واعتقلت نحو 11 شاباً واعتدت عليهم بالضرب، مما خلّف العديد من المصابين.
فيما بعد، نظّم المتظاهرون صفوفهم ورجعوا إلى ساحة التظاهر واستمروا لثلاثة أيام معتصمين، في أكبر اعتصام هذا الصيف في الديوانية، حتى أجبروا الحكومة المركزية على التدخل بإرسال لجنة من مجلس الوزراء للنظر في مطالبهم.
البقعة الأكثر توتراً
وشهدت محافظة الديوانية هذا الصيف حالة من الفوضى والتوتر غير مسبوقين؛ بسبب التدهور المستمر في الخدمات الأساسية وانتشار الفساد على نطاق واسع. وكانت الديوانية، التي تعد من أقل المحافظات اهتماماً من قبل الحكومة المركزية، مسرحاً لأكثر من 50 تظاهرة منذ بداية الصيف، ولم يكن هذا العدد الكبير من التظاهرات سوى تعبير عن حالة من الغضب والاحتقان الشعبي، حسبما يقول السكان، ونتيجة للإهمال المزمن وسوء الإدارة، مما جعل من الديوانية البقعة الأكثر توتراً اليوم في العراق، كما يصفها العديد من النشطاء.
هذا الواقع المأساوي لم يكن وليد اللحظة؛ بل تراكمت مشكلات المحافظة على مدى سنوات طويلة، في ظل غياب الحلول الجذرية والقرارات الفعالة من قبل السلطات المحلية والحكومة المركزية. تعاني الديوانية من نقص حاد في الكهرباء والمياه الصالحة للشرب، بالإضافة إلى تدني مستوى الخدمات الصحية والتعليمية والبنية التحتية، كما أنّ الفساد الإداري وانتشار المحسوبية قد أجهضا أي محاولات لتحسين الوضع العام، مما دفع السكان إلى الخروج إلى الشوارع في محاولة لاستعادة حقوقهم المسلوبة.
بلدات الغضب
تتركز معظم التظاهرات في محافظة الديوانية في الأقضية والنواحي البعيدة عن مركز المحافظة، والتي طالما عانت من الإهمال والتهميش من قبل الحكومة المحلية. قضاء غماس، ناحية الصلاحية، قضاء المهناوية، وقضاء الشامية، وقضاء الشافعية من أكثر المناطق التي تشهد احتجاجات عنيفة ومستمرة. هذه المناطق، التي تقع في أطراف المحافظة، تعاني من نقص حاد في الخدمات الأساسية وتدهور ملحوظ في البنية التحتية، مما دفع سكانها إلى الاحتجاج بصورة مستمرة.
يعد قضاء غماس، الذي يبعد عن مركز المحافظة حوالي 70 كم، أحد أبرز بؤر الغضب الشعبي، فيه يعاني السكان من سوء حالة الكهرباء التي وصلت في بعض الفترات لـساعتين تجهيز مقابل 4 ساعات إطفاء، كما أنّ الخدمات الصحية والخدمية في هذه المنطقة تكاد تكون معدومةً، فضلاً عن تلكؤ المشاريع.
طرد المسؤولين
تلعب الطبيعة العشائرية لهذه المناطق البعيدة عن المركز دوراً كبيراً في تأجيج نار التمرد، حيث يشعر السكان هنا بأنهم منسيون من قبل الحكومة، وأنّ حقوقهم لا تلقى أي اهتمام. والعشائر التي تتمسك بالتقاليد والقيم المحلية والتمرد على السلطات، قد دفعتهم إلى التعبير عن غضبهم بطرق مختلفة، بما في ذلك قطع الشوارع وإحراق الإطارات وإغلاق الدوائر الرسمية.
ووصل الغضب في بعض المرات إلى الاحتكاك مع القوات الأمنية والمسؤولين، ففي اليوم الثاني لاعتصام غماس في تموز/يوليو الماضي، حاول عضو مجلس محافظة الديوانية "صباح شنين" الوساطة بين المتظاهرين والحكومة؛ لكونه من قضاء غماس، فالتف حوله المتظاهرون وبدأوا بالهتاف ضده، ثم تصاعد الهتاف ليتحول إلى شتائم ورمي بالحجارة وضرب بالأيدي، فانسحب مع حمايته بشق الأنفس، والعصي تطارده حتى ركب سيارته.
3 مدن على خط واحد
في ناحية الصلاحية، شمال غمّاس، خرج المئات في تظاهرة غاضبة بعد أن انقطع التيار الكهربائي عن الناحية لعدة أيام. طالب المتظاهرون بتحسين الخدمات وإقالة مدير الناحية الذي يتهمونه بـ"التقاعس والفشل في أداء مهامه"، أشعل المحتجون الإطارات وقطعوا الطرق، مما تسبب في شلل حركة المرور، وعلى الرغم من محاولات المسؤولين المحليين تهدئة الوضع، إلا أنّ التظاهرة استمرّت لساعات طويلة، دون تحقيق أي تقدم يذكر.
أما في قضاء المهناوية، القريبة من الصلاحية، فقد كانت التظاهرات موجهة بشكل رئيسي ضد القائممقام الذي يشغل منصبه منذ أكثر من 20 عاماً. يطالب السكان هنا، بتحسين الخدمات واستبدال القائممقام الذي لم يقدم أي حلول عملية لمشاكلهم. تظاهر العشرات من أبناء القضاء مطالبين بتأهيل البنية التحتية وتحسين خدمات الكهرباء والمياه. كان من المفترض أن يأتي المحافظ إلى المنطقة للقاء المحتجين، لكنه لم يحضر بسبب ارتباطه بزيارة رسمية مع وزير الإعمار، مما أثار استياء وغضب المتظاهرين.
وفي الشامية، شمالي غرب الديوانية، لم تختلف الأمور كثيراً عن بقية المناطق؛ خرج المواطنون إلى الشوارع مطالبين بتحسين خدمات الكهرباء التي أصبحت شبه معدومة في هذا القضاء. كانت الاحتجاجات في الشامية أقل حدة من مثيلاتها في غماس والصلاحية، لكنها لم تقل أهميةً. تجمع المحتجون أمام مبنى البلدية وهتفوا ضدّ المسؤولين المحليين الذين يتهمونهم بالتقاعس والفساد.
لماذا يتظاهرون؟
تعكس التظاهرات التي تشهدها محافظة الديوانية "حجم الفشل الكبير للسلطات المحلية في تقديم الخدمات الأساسية لسكان المحافظة"، وفق أحد المتظاهرين، وهذا الفشل ـ والكلام للمتظاهر ـ "ليس وليد اللحظة، بل هو نتيجة لتراكمات طويلة من سوء الإدارة والفساد المستشري الذي أضعف مؤسسات الدولة وأجهض أي محاولات جادة لتحسين الأوضاع".
"أحمد صگر الباشات"، عضو مجلس محافظة الديوانية ورئيس لجنة الطاقة، يرى أنّ "مشكلة الكهرباء هي أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت المواطنين إلى الاحتجاج"، وبحسب الباشات فإنّ "الديوانية تعاني من اختناقات في شبكة الكهرباء، وليست بحاجة لمحطات جديدة بقدر ما تحتاج إلى فك هذه الاختناقات".
وأشار إلى أنّ "الحكومة المحلية تتابع عن كثب مشاريع الكهرباء المتعثرة، لكنها تواجه صعوبات كبيرة بسبب الفساد والتلكؤ في تنفيذ المشاريع".
من جانبها، أكدت زينب عبد الكاظم، رئيسة لجنة الخدمات والبلديات في مجلس محافظة الديوانية، أن "هناك أسباباً سياسية تقف وراء تصدر الديوانية للمشهد الاحتجاجي".
وأشارت إلى أن "إبعاد بعض الشخصيات السياسية من المشاركة في الحكومة المحلية قد أدى إلى تفاقم الوضع، خاصة أن هذه الشخصيات كانت تحظى بدعم شعبي كبير في مناطقها".
وأضافت أن "سوء الخدمات المتراكم على مدى سنوات طويلة قد زاد من فقدان ثقة المواطنين في السياسات الحكومية، مما دفعهم إلى الخروج إلى الشوارع للمطالبة بحقوقهم".
عبد الكاظم سلطت الضوء أيضاً على الدور السلبي الذي تلعبه الشركات الوهمية التي تتولى تنفيذ المشاريع الحكومية، وأكدت أن هذه الشركات غالباً "ما تفشل في إكمال المشاريع في الوقت المحدد أو تقدم خدمات رديئة لا ترتقي إلى مستوى التوقعات"، بالإضافة إلى أنّ "هذا الفشل يزيد من حدة الغضب الشعبي ويؤدي إلى تفاقم الأزمة".
فقر وبطالة
تُعد الديوانية من بين المدن الفقيرة في العراق، حيث تفتقر إلى الموارد الاقتصادية والمالية وتعتمد بشكل رئيسي على الزراعة. ووفقًا للإحصائيات الحكومية الرسمية، تحتل الديوانية المرتبة الثانية بعد المثنى من حيث نسبة الفقر التي تصل إلى 47%. فهي لا تمتلك أية موارد سياحية أو نفطية، ومعظم سكانها يعتمدون على الزراعة التي تراجعت كثيراً في السنوات الأخيرة، بفعل الجفاف وشح المياه.
وفي هذا السياق، يقول محمد البديري، مدير مكتب مفوضية حقوق الإنسان في الديوانية، أن "تطوير الاستثمار وخلق فرص عمل حقيقية يُعد أمرًا ضروريًا للحد من نسبة الفقر المرتفعة التي تجاوزت 47%". وأكد البديري أن "عدم وجود برامج فعالة للنهوض بالمحافظة سيعيق تحقيق حلول ناجعة لضمان الاستقرار الاقتصادي لأبنائها".
ووصلت نسبة البطالة في محافظة الديوانية في العام الحالي إلى 35%، مما يعكس تفاقم مشاكل الفقر والبطالة بشكل كبير في المحافظة. بحسب مديرية الإحصاء في الديوانية. كما تواجه المحافظة تحديات متعددة في مجال الخدمات العامة، حيث تشهد جميع قطاعاتها تدهورًا ملحوظًا، وتفاقمت الأزمة بسبب فشل المشاريع وإحالتها إلى شركات غير موثوقة وغير قادرة على تنفيذ مشاريع كبرى، في ظل انتشار الفساد المالي والإداري في مختلف المؤسسات الحكومية.
إضافة لذلك، فإن منظومة توزيع الكهرباء في الديوانية هي من بين الأسوأ في المحافظات، إن لم تكن الأسوأ على الإطلاق، فكثير من الأقضية والنواحي ما تزال تعتمد على منظومة توزيع من أسلاك ومحولات عفى عليها الزمن، حيث يعود بعضها لسبعينات وثمانيات القرن الماضي، الأمر الذي يسبب ضياعاً كبيراً في التيار الكهربائي.
لغة الدولار
في ظل الوضع الراهن، يبدو أن مستقبل محافظة الديوانية ستكون فيه التظاهرات بمثابة رياضة يمارسها المواطنون يومياً، بحسب أحد النشطاء، إذا "لم تتخذ السلطات المحلية والحكومة المركزية إجراءات ناجعة لتحسين الأوضاع ومكافحة الفساد المستشري".
يقول محمد جمال، ناشط من الديوانية، إنّ "الفساد أصبح ثقافة عامة في الديوانية، وبالتالي صار يمارسه الجميع تقريباً، بدءاً من المسؤولين نزولاً لصغار الموظفين"، مضيفاً: "حتى الأشخاص المعروفين بنزاهتهم وحسن سيرتهم، قد تحولوا لمسؤولين فاسدين بمجرد وصولهم للسلطة، والسبب في ذلك هي الحيتان الكبيرة من الأحزاب التقليدية التي تستطيع شراء الجميع، فلكل مسؤول سعره، حتى العنيد سيخضع في التالي للغة الدولار".
وفي هذا السياق، قامت كتلة بدر في الديوانية باستقطاب عضو مجلس المحافظة أنوار الزيادي، على الرغم من ترشحها عن تحالف قيم (تحالف لقوى مدنية)، وبالتالي أصبحت أكثر عضو مقرب من المحافظ التابع لبدر عباس شعيل الزاملي.
أنوار اليوم، تواجه دعوى قضائية من منافستها المباشرة في الانتخابات المحلية الأخيرة، نهاية حسين الخزرجي، التي تتهم أنوار بأنها قد فازت بشراء الأصوات وليس بجمهورها الحقيقي.
مشاريع تحت الإنشاء منذ سنوات
الفساد المستشري في المؤسسات الحكومية قد أجهض أي محاولات جادة لإصلاح الوضع، فمئات المشاريع التنموية في المحافظة قد توقفت بسبب الفساد والتلكؤ في التنفيذ. إنّ هذه المشاريع كان من المفترض أن تساهم في تحسين الأوضاع المعيشية للسكان، لكنها تحولت إلى عبء إضافي على كاهل الحكومة المحلية، كما يرى أحد النشطاء.
في الديوانية ليس غريباً أن تجد مشروعاً يعملون فيه منذ عشر سنوات. مستشفى غماس بدأوا العمل به عام 2013، ولا يزال العمل جارياً فيه، ولا أحد يعلم متى سيكتمل، وفي هذا الصدد يقول حسن آل ديوان، أحد وجهاء غماس: "يفتقر قضاء غماس وهو الأكبر في الديوانية لمستشفى حقيقي، فنحو ربع مليون نسمة يعتمدون على مستوصف صحي متهالك".
أما الحالات الخطرة فيسارع المواطنون، بحسب آل ديوان، بنقلها إلى قضاء المناذرة في النجف، الذي يبعد نحو 30 كم. ويضيف: "لهذا السبب، فإن الحالات الخطرة تتوفى في الطريق إلى المناذرة، أما مستشفى غماس فهو مشروع متلكئ منذ أكثر من عشر سنوات، ينخره الفساد".