منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، يعمل تحسين عباس، في بيع الزيوت والدهانات والمواد الكيميائية داخل محل صغير في سوق الشورجة وسط بغداد، وعلى مدى تلك السنوات، لم يتعرض تحسين، ولحسن الحظ، لأي حادث حريق أو اختناق بدخان.
ويقول تحسين، متأثراً: "فاجعة الكوت كشفت الغطاء عن بصيرتنا؛ كنا مخطئين طوال السنوات الماضية بعدم توفير مستلزمات الحماية من الحرائق"، مستدركاً بالقول: "لكن، هل من المعقول أن تُغلق محالّنا قسراً حتى بعد امتثالنا لشروط السلامة؟ أين العدالة؟".
ويضيف متسائلاً بنبرة امتعاض: "شركات منظومات الإطفاء متوفرة في كل مكان، لكن لا أفهم لماذا يُصرّون على إلزامنا بالشراء من شركة بعينها. جاء إلينا وفد الدفاع المدني، ضباط برتب مختلفة، وأقسم بالله أنهم لم يُجروا جولة تفتيشية شاملة، بل اكتفوا بفحص المحل من الداخل فقط، ولم يصعدوا إلى الطابق العلوي. سريعاً كتبوا اسم المحل في الدفتر وقرّروا الإغلاق، دون حتى أن يمنحونا فرصة للحديث أو توضيح موقفنا".
ما بعد "هايبر ماركت الكوت"
في مساء السادس عشر من تموز 2025، هزّ الشارع العراقي الخبر المأساوي لاندلاع الحريق الهائل في هايبر ماركت الكوت، التحقيقات الأولية أشارت إلى غياب منظومة إطفاء مركزية داخل المجمع، إلى جانب تكدّس المواد القابلة للاشتعال وعدم وجود مخارج طوارئ فعّالة. وأثار الحادث غضباً شعبياً واسعاً ودفع السلطات إلى التحرك سريعاً باتجاه فرض إجراءات صارمة على الأسواق والمحال التجارية.
وفي ظل تصاعد المخاوف من تكرار حوادث الحرائق الكبيرة، أعلنت الجهات الأمنية والإدارية في بغداد عن تصعيد غير مسبوق ومستمر في حملات التفتيش والإغلاق، الفريق الركن وليد خليفة مجيد، قائد عمليات بغداد، أوضح أن: "الحملة جاءت نتيجة لتكامل جهود الأجهزة الأمنية والرقابية، في إطار خطة استباقية تهدف إلى تقليل الأخطار التي قد تهدد المواطنين، خاصة مع موجات الحر القاسية وضعف البنى التحتية في بعض المنشآت".
وأشار الفريق الركن إلى أن "هذه الإجراءات تأتي في سياق تكليف مباشر من الجهات العليا، وأن وزارة الداخلية أكدت من جانبها أن الحملة لا تقتصر على العاصمة فقط، بل تشمل المحافظات كافة، إذ تم حتى اللحظة إغلاق أكثر من 2000 بناية وموقع مخالف في عموم البلاد".
ومن جانبها، شددت وزارة الداخلية على أن هذه الحملة لم تكن ظرفية، بل امتداد لحالة إنذار واستنفار بدأت عقب كارثة الكوت. وفي هذا السياق، صرّح العميد مقداد ميري، مدير إعلام وعلاقات الوزارة، بأن الجهد الرقابي والتنفيذي يجري بتنسيق مباشر مع قيادة الدفاع المدني في عموم المحافظات.
إذ قال: "منذ حادثة الكوت وحتى اليوم، نفذ الدفاع المدني حملة كبرى شملت مختلف المناطق، وأسفرت عن إغلاق 2351 موقعاً وبناية ودائرة ومحطة مخالفة لشروط السلامة"، مضيفاً أن "الأرقام في تغيّر مستمر، فنحن نعمل بشكل يومي وميداني، والحملة ما تزال مستمرة ولن تتوقف في القريب العاجل".
وأكد ميري أن المرحلة المقبلة ستشهد تشديداً في الإجراءات الرقابية، مشيراً إلى أن الحكومة تعتزم فرض التزام صارم بمعايير الوقاية، عبر تفعيل أدوات الردع القانونية وتوسيع نطاق الجولات التفتيشية.
"نحن ملتزمون بضمان بيئة آمنة وخالية من المخاطر. قادم الأيام لن يشهد بإذن الله أي خروقات بهذا الصدد، وسنتعامل مع أي تقصير وفق الأطر القانونية حفاظاً على أرواح وممتلكات المواطنين." يقول ميري.
حملات مستمرة للغلق
في أعقاب الحادث، أطلقت مديرية الدفاع المدني حملة واسعة في عموم بغداد وعدد من المحافظات، استهدفت تفتيش المشاريع التجارية والمخازن والأسواق الشعبية، خصوصاً في مناطق مكتظة مثل الشورجة والباب الشرقي والسنك. ووفقاً لتقارير رسمية، تم حتى الآن غلق المئات من المحال والمشاريع التجارية فقط في العاصمة بغداد بسبب عدم استيفائها شروط السلامة.
وفي هذا السياق، أكد مدير دفاع مدني بغداد الكرخ، العميد أحمد سلمان، أن الإجراءات التي اتخذتها المديرية جاءت وفقاً للصلاحيات القانونية، وضمن خطة استباقية تهدف إلى تجنيب البلاد فواجع مماثلة، إذ قال: "بموجب أحكام القانون رقم 4 لسنة 2014، فإن آلية العمل المعتمدة لدينا ألزمتنا باتخاذ تدابير رادعة بحق المشاريع المخالفة، وتم فعلاً غلق ما يقارب 600 محل ومشروع تجاري داخل العاصمة فقط، مع إحالة ملفاتها إلى السيد محافظ بغداد لاتخاذ ما يلزم وفق القانون".
وأضاف أن "حملاتنا لا تهدف إلى التضييق على أصحاب المحال، بل لحماية أرواح المواطنين ومنع تكرار مشاهد الدمار. كما أود أن أؤكد أننا نعمل على تطوير قدراتنا اللوجستية، وقد أبرمنا مؤخراً عقداً مع الجانب الكوري لتجهيز العراق بطائرات متخصصة بعمليات الدفاع المدني والإنقاذ الجوي، يتم استلامهما حتى شهر لآذار 2029، مصحوبة بتدريب شامل لكوادرنا على التشغيل والصيانة، ونحن بكل صراحة بحاجة ماسة لهذا النوع من الدعم التقني المتقدم".
هل تكفي فاجعة واحدة لتحريك منظومة نائمة؟
منذ تأسيس مديريات الدفاع المدني في العراق، بقيت اشكالية غياب الذراع الجوي من أبرز الثغرات في منظومة الاستجابة للكوارث. فقد وصلت تكلفة الحرائق المتكررة وتدهور البنى التحتية إلى حد جعل الخبراء يرون أن ذلك يمثل "فشلاً لا يُغتفر"
وفي 23 كانون الأول 2024، وقّعت الحكومة العراقية عقداً مع شركة Korea Aerospace Industries لتوريد طائرتين من طراز KUH-1 Surion، أول طائرة كورية متعدّدة الاستخدام تُصَدَّر للخارج، قيمة العقد تبلغ حوالي 93.7 مليون دولار (136 مليار وون) ويتضمن:
- طلبي طائرتي Surion مجهّزتين لخزانات إطفاء بسعة تبلغ حوالي 3000 لتر مياه لكل منهما.
- تدريب كامل للطيارين والفنيين والمهندسين العراقيين على التشغيل والصيانة.
- تخصيص الطائرات للمهام المدنية مثل الإطفاء والإنقاذ الجوي.
ويؤكد خبير الطيران فارس الجواري أن امتلاك العراق لطائرات إطفاء مروحية يُعد أمراً منطقياً، فوفقاً لتصريحاته: "90٪ من دول العالم تعتمد على هذا الأسلوب، خاصة في التعامل مع حرائق الغابات والمناطق التي يصعب الوصول إليها فرقياً.. والأسعار تتراوح بين 1.5 إلى 2 مليون دولار، رقم يمكن استيعابه ضمن ميزانية الدولة". كما اعتبر العقد الكوري "خطوة تاريخية" لتفعيل قطاع الدفاع المدني الجوي بعد سنوات من التخطيط دون تنفيذ فعلي.
ورغم أهمية العقد الكوري من حيث المبدأ، إلا أن الأسئلة التي تطرح نفسها بإلحاح تفوق في وقعها وقع الأرقام والتصريحات الرسمية: لماذا علينا الانتظار حتى عام 2029 لتسلم طائرتين فقط مخصصتين للدفاع المدني؟ لماذا لا تتحرك عجلة الاستجابة الوطنية إلا بعد وقوع الكارثة؟ وهل يحتاج العراق إلى فواجع إضافية بحجم فاجعة الكوت كي تعي الجهات المعنية أن حياة المواطن لا تحتمل التأجيل والتقسيط؟.
تساؤلات تزداد حدّتها في ظل غياب توضيحات رسمية حول أسباب التأخير، وطبيعة الجدول الزمني للعقد، وما إن كانت هناك أزمة تمويل فعلية في الموازنة، أو عجز إداري وهيكلي يعيق التنفيذ الفوري، أو ربما بيروقراطية مزمنة تجعل حتى الدعم الخارجي رهينة لجداول طويلة الأمد لا تتناسب مع سرعة اشتعال الحرائق ولا مع هشاشة البنى التحتية في الأسواق والمجمّعات التجارية.
الدفاع المدني: نمتلك صلاحيات عقابية
أن الإجراءات التي تُتخذ بحق المحال التجارية والمشاريع المخالفة لا تأتي بشكل ارتجالي، بل تستند إلى إطار قانوني واضح. هذا ما يؤكده العقيد حسن إبراهيم حسن، مدير دفاع مدني بغداد/الرصافة، إذ يقول: "إن قانون الدفاع المدني رقم 44 لسنة 2013، وتحديداً في المادتين 20 و21، يمنحنا صلاحيات عقابية واضحة، تتيح لنا تغريم المخالفين أو اتخاذ إجراء الإغلاق بحقهم إذا لم يلتزموا بشروط السلامة".
ويشير نص المادة (20) من قانون الدفاع المدني إلى فرض غرامات مالية على المشاريع التي تُخالف ضوابط الوقاية والسلامة العامة، وقد تصل تلك الغرامات إلى مليون دينار عراقي بحسب نوع المخالفة وخطورتها.
أما المادة (21)، فتخوّل الدفاع المدني اتخاذ إجراءات الإغلاق المؤقت أو الدائم بحق أي جهة لا تمتثل لتوجيهات السلامة، خاصة بعد الإنذار الرسمي الأول.
ورغم وضوح هذه المواد، يثير مراقبون تساؤلات حول معايير تطبيقها: هل تُطبّق بشكل متساوٍ على جميع المحال والمجمعات، أم تُستخدم كأداة للضغط على بعض التجار دون غيرهم؟ وهل هناك رقابة فعلية على من يُغلق ومن يُستثنى؟ وهل توفر هذه المواد حماية حقيقية، أم أنها تُستخدم فقط بعد وقوع الكارثة لا قبلها؟.
ويعلّق الناشط المدني علي كريم على هذا الواقع بالقول: "لا خلاف على أن القوانين وُضعت لضمان السلامة العامة، لكن التحدي الحقيقي يكمن في كيفية تطبيقها على الأرض. لدينا حالات كثيرة أُغلقت فيها محال صغيرة ومتوسطة لمخالفات محدودة، في حين نرى مشاريع تجارية كبرى تستمر بالعمل رغم وجود مخالفات جسيمة، ما يثير تساؤلات عن معايير الانتقاء وشفافية التنفيذ".
ويضيف: "الغرامات المالية بحد ذاتها ليست إشكالية، بل وسيلة ردع مشروعة. لكن عندما يتحول القانون من وسيلة للحماية إلى أداة للضغط أو التفاوض غير المباشر، هنا تبدأ المشكلة. يجب أن يكون تطبيق القانون عادلاً وواضحاً، وأن يخضع لمراجعة دورية من جهات رقابية مستقلة لضمان عدم استغلاله في غير موضعه".
ويؤكد كريم أن المنظومة القانونية، رغم وضوحها، تبقى بحاجة إلى تفعيل أدوات الرقابة المجتمعية والإعلامية لضمان أن يكون الهدف منها وقائياً وليس انتقامياً أو وظيفياً فقط.
لا فتح لأي محل دون شروطنا
وضمن سلسلة ضبط شروط السلامة في المشاريع التجارية والأسواق العامة، أكد قاسم العبيدي، مدير قسم شؤون المواطنين في مجلس محافظة بغداد، أن ملف الوقاية من الحرائق بات أولوية قصوى، لا سيما في المناطق التجارية المكتظة والمهددة بتكرار مشاهد الفواجع، قائلاً: "شروط السلامة الأساسية تبدأ من وجود منظومة فعالة لإخماد الحرائق، وتشمل كرات إطفاء، ومطافئ في كل طابق، إضافة إلى سلالم خارجية للطوارئ. في حال غياب أي من هذه المتطلبات، يُبقي الإغلاق مفروضاً على المشروع إلى حين استيفاء كامل الشروط. وإذا تبيّن أن الجهة المالكة لم تلتزم بإجراءات السلامة خلال المدة الممنوحة، فسيتم اتخاذ إجراءات قانونية صارمة بحق مالك المجمع أو المول التجاري".
وأوضح العبيدي أن الحملة شملت مناطق عدة في العاصمة، لكن التركيز الأكبر كان على منطقة الشورجة التجارية، لما تمثّله من نبض العراق الاقتصادي على حد تعبيره، مشيراً إلى أنها "تحوي كميات ضخمة من البضائع القابلة للاشتعال، كالأقمشة القطنية، والإسفنج، والملابس الجاهزة، ما يجعلها بؤرة خطرة في حال نشوب أي حريق، حتى لو كان محدوداً في بدايته"، مضيفاً أن "الشورجة تحديداً تضم محال تقع داخل أبنية قديمة تفتقر إلى منظومات إطفاء حديثة، ولهذا تم إغلاقها مؤقتاً حتى التأكد من توفر شروط الدفاع المدني. لا يمكننا المغامرة بسلامة منطقة تجارية كاملة تحتوي على مواد شديدة القابلية للاشتعال، فالمسؤولية هنا جسيمة، والإهمال لا يُغتفر".
وتطرّق العبيدي أيضاً إلى "الرقابة المشددة على المطاعم والمشاريع متعددة الطوابق"، قائلاً: "حتى المطاعم التي تضم طوابق علوية خضعت لإجراءات مماثلة؛ حيث شددنا على ضرورة وجود سلالم خارجية، ومنظومات إخماد حرائق خاصة".
وقد باشرت فرق الدفاع المدني بإغلاق المواقع المخالفة، على أن تُرسل لاحقاً فرق مختصة لإعادة الكشف والتأكد من تنفيذ الشروط قبل السماح بإعادة الفتح".
نفذنا المطلوب.. ولم يأت أحد
في مقابل هذه التصريحات الرسمية التي تؤكد أن إجراءات الغلق مؤقتة وتُرفع فور استيفاء شروط السلامة، يعبّر عدد من أصحاب المشاريع في الشورجة عن استيائهم من ما وصفوه بغياب العدالة في التنفيذ وطول الانتظار غير المبرّر، رغم التزامهم الكامل بما طُلب منهم.
أبو أحمد، وهو صاحب شركة تجهيز للمواد والبضائع، ويمتلك خمس محال وعدداً من المخازن في قلب الشورجة، يقول: "نحن لا نرفض شروط السلامة، بل نفذنا كل ما طُلب منا. امتلكنا أصلاً منظومة لإطفاء الحرائق، لكنهم قالوا إنها لا تتوافق مع النوعية المطلوبة، وطلبوا استبدالها بمنظومة محددة من شركة بعينها. ورغم الكلفة الباهظة، قمنا بذلك، احتراماً للتعليمات، وتحمّلنا النفقات من أجل إعادة فتح محالنا".
ويضيف: "قالوا لنا إن المحال ستُفتح بعد جولة تفتيشية جديدة للتأكد من الالتزام، لكننا نفذنا كل شيء، ومنذ أكثر من أسبوع لم يأتِ إلينا أحد، ولم تُفتح محالنا، ولا حتى اتصلوا بنا. بقينا ننتظر، لا نعرف متى سيأتون أو إن كانوا سيعودون أصلا. نحن حائرون".
ثم ينتقل إلى ما يعتبره جوهر الإشكال: "المشكلة أن الإجراءات تُنفذ بقوة وسرعة، لكن المراجعة بطيئة وغير واضحة. كيف أستمر في العمل وأنا لا أبيع منذ أيام؟ لديّ عمال ورواتب وإيجارات والتزامات. نحن نعيش من البيع اليومي، ولسنا شركات نفط".
ويختم أبو أحمد بإشارة إلى ما يعتقد أنه نمط متكرر من الضغط المبطّن: "بصراحة، الأمر بات يُفهم كأنّه أسلوب ضغط لإجبارنا على الشراء من شركات محددة. لماذا يجب أن أشتري من الجهة التي يُحددها الدفاع المدني؟ وهل هذه إجراءات سلامة، أم صفقات موجهة تفرض علينا بالقوة؟ نحن نشعر أننا ندفع ثمن شيء لا علاقة له بالسلامة، بل له علاقة بقرارات فوقية تُنفذ دون رقابة، والمواطن هو من سيدفع الثمن في النهاية".