عبادة "الخوشي"

5 قراءة دقيقة
عبادة "الخوشي"

أثار ظهور الملك عبد الله الثاني، ملك الأردن، في المؤتمر الصحفي مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في غضون الأسبوع الماضي، الكثير من اللغط وردود الأفعال عند الجمهور العام، والكثير من ردود الفعل هذه كانت مستفزّة من إصرار الرئيس الأميركي على مشروعه بالاستيلاء على غزّة وتهجير سكانها إلى الأردن ومصر.

 

ولكن جزءاً من ردود الفعل كانت موجّهة إلى الملك الأردني، ووصفت ردوده الدبلوماسية بأوصاف سلبية، بل أن هناك من طالب أن يقوم الملك بردّة فعل انفعالية، كأن يترك المكتب الذي كان يجلس فيه مع الرئيس الأميركي، أو يخاطبه بنبرة حادّة.

 

الجهل وعدم المعرفة بالسياقات والأعراف الدبلوماسية ربما تقف خلف هذه الاستجابات السلبية عند الجمهور العربي العام على سلوك الملك الأردني، غير أن جزءاً من المشكلة يتعلّق بالثقافة الاجتماعية السائدة، والتي تحتفي بالشخصيات الحادة والانفعالية، وتحترم "الخوشي"، المجازف والعنيف والمتصدي للمشاكل لحلّها أو لاختلاقها، والذي تختلط في شخصيته قيم الشجاعة والبطولة مع اللصوصية والاجرام وقطع الطريق، وتوازي باللهجات الشامية "القبضاي" و"الشقي". ومن المثير أن مفردة "الشاطر" في اللغة العربية القديمة كانت تعني اللص قاطع الطريق، ولكنها صارت بلهجاتنا المحلية اليوم تشير إلى المجتهد والذكي! وفي هذا دلالة على تداخل المعنيين.

 

في اللهجة الجنوبية العراقية نجد مفردة أخرى هي "الحوّاف" الذي "يحوف" الأغنام والمواشي من القرى البعيدة، أي يسرقها. وترتبط بشخصية الحوّاف سمات ايجابية كثيرة؛ فهو شجاع  يسير في الليل، من دون خوف من الحيوانات البريّة المفترسة، ولا من اعتراض الغرباء لطريقه. ويسرق من أجل إطعام عائلته، ويقال غالباً؛ إنه يسرق ولا يستعطي أو يستجدي، وهذا شيء جيّد في العرف الاجتماعي العراقي القديم.

 

إن الذي يجازف ويلامس حدود الخطر عليه هالة من الجاذبية، ما زالت مجتمعاتنا العربية ضعيفة أمامها، ولا بأس بمن يجازف بنفسه من أجل أعمال رياضية أو مغامرات، فهذا شأنه وخياره الشخصي، ولكن الخطورة تكمن بالاحتفاء بمن يجازف بشعب وبلد ومستقبل أجيال قادمة.

 

لقد أثار دخول صدام بجيشه إلى الكويت صباح الثاني من آب 1990 زوبعة من ردود الأفعال حول العالم، وتحوّلت الأضواء الإعلامية فجأة إلى العراق، وصار الصحفيون ينتظرون الكلمة التي سيدلي بها صدّام حسين تعليقاً على هذا الحدث الصادم والمفاجئ. كان هناك من العراقيين والعرب من يستشعر فداحة الكارثة التي حدثت للتوّ، أو التي ستأتي بتداعياتها في المستقبل، ولكن هناك، بكلّ تأكيد، من شعروا بالابتهاج لصورة "الخوشي" الذي لا يعبأ بالأعراف الدولية، ولم يتحمّل المفاوضات والسياقات الدبلوماسية في حلّ المشاكل بين الدول، وآثر أن يقوم بمغامرة كانت تشبه قفزة في الظلام. وهي قفزة قام بها خوشي العراق، وسحب العراق كلّه والمنطقة خلفه.

 

كانت الصورة التي يصنعها إعلام النظام في ذلك الوقت عن العراق ومصادر قوّته، صورة بلاغية أكثر منها حقيقية، فهي تحكي عن الشموخ والعزّة والكرامة والإباء، والبطولة التي تجعل الرجل الواحد بألف رجل من الأعداء وما الى ذلك من صياغات لغوية لا معنى لها على أرض الواقع، هذا الواقع الذي يحفل فقط بالحسابات الواقعية، ويحتكم إلى الرياضيات والمنطق أكثر من احتكامه للأغنيات والهتافات والأشعار الحماسية.

 

كان العراق في تلك الأوقات ينتظر معجزات سماوية لمنع القدر المحتوم، ودمّر العراق بشكل مؤلم وتحوّلت كلّ منشآته الى نثار، وتراجعت صورة "الخوشي" عن واجهة الأحداث خلال عقد التسعينيات، ولم يعد هناك من "مسرح" لاستعراض البطولات، وانكأ الرئيس لكتابة الروايات والأشعار والمذكّرات.

 

قبل عهد البلاغة الفائضة والحماسة الانتحارية، كان سياسي محنّك مثل نوري السعيد يعي أن السير خلف حماسة الشارع الثورية ستدمّر العراق، وكان يعرف أن العلاقة مع بريطانيا تحمي العراق من تمدّد نفوذ الدول المجاورة، وأيضاً توازن الضغط الذي يمثّله الاتحاد السوفيتي الداعم لحركات اليسار في العراق والمنطقة.

 

لم يكن نوري السعيد ولا صالح جبر ولا غيرهما من ذات الخطّ السياسي يحظى بشعبية كبيرة في الشارع، لأن الشارع كان ينادي على الخوشي، وتمنى صعوده، ومن سوء حظّنا أن لبّى القدر النداء، بسلسلة من الخوشية تتابعوا على تاريخ العراق، ما زالوا حتى يومنا هذا يربكون الرؤية الواقعية للأشياء ويخدّرون الجمهور العام باللغة الحماسية والهتافات.

أحمد سعداوي كاتب وروائي

نُشرت في الجمعة 14 فبراير 2025 10:50 ص

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.