المؤسسة الدينية في النجف.. البقاء ما بعد السيستاني

11 قراءة دقيقة
المؤسسة الدينية في النجف.. البقاء ما بعد السيستاني المرشد الديني الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني وعدد من طلبة الحوزة العملية/ تعبيرية

تمتلك المؤسسة الدينية في النجف نمطاً من التدخل من أجل حماية النظام السياسي من الانهيار أو حصول تغيّرات راديكالية تطرأ عليه. ما يسمح بإعطاء مظلّة من الاستقرار يحمي وجود المؤسسة الدينية نفسها. إلّا أن قدرتها على حماية النظام - وبالتالي عراق يسمح باستمرار مركزيّة النجف في العالم الإسلامي- تتراجع بمرور الزمن، نتيجة تنامي نفوذ الميليشيات المدعومة من قبل إيران والتي بدأت بتحدّي بيانات مرجعية النجف والالتفاف عليها بما يهدف عمليّاً للتنصّل منها وتحويلها إلى بيانات صفريّة لا تأثير حقيقي لها. فضلًا عن تغيّر الظروف الاجتماعية الداخلية في مدن وسط وجنوب العراق ذات الغالبية الشيعية - ومعظم سكانها من مقلّدي المرجع الأعلى للشيعة السيد علي السيستاني- وإمكانية لجوء جزء من شيعة العراق إلى تقليد مراجع غير تقليديين بعد وفاة السيستاني. ممّا يستدعي إجراءات استثنائيّة يجب أن تقوم المؤسسة الدينية بها من أجل الحفاظ على وضعها الاجتماعي والسياسي داخل العراق، وبقاء حوزة النجف كثقل مركزي في المجتمع الشيعي عبر العالم.

 

لقد سعت المؤسسة الدينيّة بعد2003  إلى الحفاظ على شكل النظام السياسي العراقي والتدخل في اللحظات المصيرية والحاسمة. مثلًا، ساهمت حوزة النجف بوضع اشتراطات أمام زعيم التيّار الصدري مقتدى الصدر بعد فوزه بانتخابات 2021 البرلمانية تتضمن إشراك الأطراف الشيعية الأخرى في عملية تشكيل الحكومة، ما منع عمليّاً تحويل فوزه الانتخابي إلى تمثيل سياسي يُقصي بقية الأحزاب الشيعيّة ويحول دون استفراده بالحكم في المناطق ذات الغالبية الشيعية. والذي إن حصل كان ليخرق السياق المتعارف عليه بوجود حكومات ائتلافية تشترك فيها كافّة القوى السياسية، وما تبع هذا الاشتراط لاحقاً من تدخّل غير معلن لإيقاف تحرّك التيّار الصدري بعد دخول جماهيره للمنطقة الخضراء والسيطرة على مراكز حكومية. بالإضافة لطلبها من أعضاء حزب الدعوة عدم تمكين نوري المالكي من تولّي ولاية ثالثة كرئيس للوزراء بعد انتخابات 2014 وإيجاد بديل آخر. بعد أن أدت فترة حكمه التي عُرفت بانتهاج الحكومة لسلوك طائفي بالضد من المواطنين العرب السنّة إلى سقوط معظم المدن ذات الغالبية السنيّة بيد داعش، واحتمالات أن تؤدي فترة حكم إضافية له إلى تعميق الصراع.

 

كذلك سعت المؤسّسة الدينية للتعامل مع الضغط الذي برز خلال احتجاج تشرين 2019-2020، وساهمت بالدفع باتجاه  استقالة حكومة عادل عبد المهدي بعد أحداث "مجزرة جسر الزيتون" في مدينة الناصرية جنوبي العراق والتي انتهت بمقتل حوالي 100 مواطن على يد القوات الأمنية. إن دعم حوزة النجف للاحتجاج التشريني نجح بإقناع المحتجّين من أجل تحويل المطالبات الأوليّة لهم بإسقاط النظام السياسي كاملاً، إلى تبنّي خطاب المرجعيّة المتضمن الدعوة لاستقالة الحكومة وإقرار قانون جديد للانتخابات وإجراء انتخابات مبكّرة. أي بشكلٍ عملي، تم امتصاص الغضب الشعبي الذي كان من الممكن أن يؤدّي إلى انهيار النظام، وتحويله إلى سعي المحتجّىن لتأسيس أحزاب سياسيّة جديدة والتنافس في نفس الآليات الديموقراطية التي يقرّها النظام السياسي ويسمح بها في إطار القانون.

 

انعكاسات السابع من أكتوبر

 

في بيان السيد السيستاني إثر استقباله المبعوث الخاص لبعثة الأمم المتحدة في العراق، تمت الإشارة إلى "منع التدخلات الخارجية" و"تحكيم سلطة القانون" و"حصر السلاح بيد الدولة". عبارات كهذه لا يمكن النظر إليها إلّا في إطار سياقها الزمني والوقت الذي صدرت فيه، إذ أتت لتدعيم موقف المؤسسات الرسمية للدولة والتي تسعى لإبعاد العراق عن الصراع الإقليمي الدائر بين إيران وإسرائيل. في ظرف تحاول فيه الفصائل المسلّحة فعل عكس ذلك تماماً، واتخاذ الأرض العراقيّة منطلقاً لعمليّات عسكرية. إن سيناريو انجرار الفصائل المسلّحة بصدام مباشر وجاد مع إسرائيل بالإمكان أن يؤدي لدمار مشابه لما حصل في لبنان وغزّة، خاصّة بظل إشارات إسرائيلية لاستهداف العراق بسبب عمليّات "فصائل المقاومة".

 

ما تفعله المؤسسة الدينية يساهم مجدّداً بالحفاظ على النظام السياسي، وهذه المرّة من خلال دعم الحكومة على حساب الميليشيات فيما يتعلق وضرورة عدم انجرار العراق عسكريّاً في مواجهة غير متكافئة. مع الإبقاء على موقفها المتضمن دعم المتضررين من المدنيين في مناطق الصراع من خلال التبرعات.

 

يحاول الخطاب الإعلامي للفصائل التنصّل عن الانتقاد الموجّه إليها من قبل مرجعية النجف، وتحويره من خلال إعادة تفسيره إلي عناوين تستخدم بكثرة في السياق العراقي، مما يفقده أي قيمة حقيقية. إذ فسّر أحد أعضاء مجلس النواب المنتمين إلى منظمة بدر بيان السيستاني على أنّه متعلّق بالفساد فقط. كذلك يصر قياديّو كتائب سيد الشهداء -إحدى الفصائل المسلحة- على أن بيان المرجعية لم يقصدهم.

 

في تطورٍ غير معهود، ظهرت كتائب النجباء بموقف يتحدّى بيان المرجعية، إذ أعلنت من خلال المكتب السياسي للحركة استعدادهم لـ"التضحية بالنظام السياسي والتمسك بالمقاومة".

 

انتعش الخطاب الإعلامي للفصائل (ما يُعرف بالتوجه "الولائي" نسبةً لولاية الفقيه) بعد أحداث السابع من أكتوبر، إذ استغل الولائيّون الغضب الشعبي العراقي إزاء جرائم الإبادة الجماعية ضد المدنيين في غزة من أجل إعادة تصدير أنفسهم إلي الواجهة، وفرصة الحديث مجدّداً في الفضاء العام. لقد شكّل السابع من أكتوبر فرصة للولائيين من أجل تقديم مواقف أكثر تشدّداً وراديكالية من تلك المواقف الصادرة من المرجعية الدينية في النجف، ما انعكس في انجذاب أعداد كبيرة من العراقيين ومعظمهم من الشباب العاطفي والمندفع إليهم. ويتم تصوير المرشد الأعلى الإيراني علي الخامنائي كصاحب مواقف أكثر جرأة من مواقف السيستاني في النجف، وبغض النظر عن جودة أو مدى واقعية هذه المواقف، يميل كثيرون على المستوى الشعبي في العراق للتعاطي مع الخطاب الولائي. 

 

لا ينجح الخطاب الولائي بتغيير مواقف الحراكات الإصلاحية أو الأفراد غير المتدينين، بل ينحصر نطاقه على الجماعات والمواطنين المحافظين والمتدينين والذين تشكّل قضية تحديد مرجع التقليد أمراً جوهريّاً بالنسبة لهم. بمعنى آخر، يعمل الولائيون على منافسة مرجعية النجف في نفس مناطق تأثيرها ونفوذها الأساسي.

 

وسعى الإطار التنسيقي ومنذ تولي حكومة محمد شياع السوداني إلى إعطاء امتيازات متقدّمة للفصائل المسلّحة على حساب الميزانية العامة للدولة. بدءاً بتأسيس (شركة المهندس) ومنحها رأس مال بقيمة 100 مليار دينار عراقي (حوالي 75 مليون دولار)، والتي سيطرت على أول مشروع استثماري لها بواقع 2 مليون دونم (حوالي 49 ألف كيلومتر مربع) في بادية السماوة المحاذية للحدود السعودية العراقية. بالإضافة إلى إقرار حوالي 100 ألف درجة وظيفية جديدة لهيئة الحشد الشعبي في ميزانية 2023 فقط. وكذلك السماح لـ(تجمّع أبناء المهندس) وهو تشكيل يعمل بشكل أساس لإقناع الشباب والترويج للخطاب الولائي- بالعمل بحريّة في الجامعات والكليّات. 

 

إنَّ هذه الامتيازات الحكوميّة ستشكّل خطراً على استمرار "مبدأ السيستاني" الذي يدعم دولة مدنية غير دينية في العراق بعد وفاته. إذ سيتم استخدامها لشراء ولاءات الناس لدعم أسماء مراجع جدد مقرّبين لإيران. بميكانيكية مشابهة للشبكات الزبائنيّة التي تستخدمها الأحزاب السياسية لشراء الأصوات الانتخابية وضمان الولاءات. 


مخاوف المجتمع المدني

 

إثر محاولة إقرار مجلس النواب العراقي تعديلاً جديداً لقانون الأحوال الشخصية يُلغي الطابع المدني للقانون الفعّال الآن ويستبدله بمحددات طائفية تستند إلى تفسيرات دينية، ظهر رجل الدين الشيعي المقرّب من مرجعية النجف رشيد الحسيني بلقاء دعم فيه هذا التعديل. وهاجم المدافعين عن حقوق الإنسان الذين انتقدوا بشدّة التعديل المقترح واصفاً إياهم بـ"الفاسدين"، "لا قيمة لهم". فضلاً عن توجيه تهديد للنواب قائلًا: "صبرنا له حدود". مثل هذا الخطاب غير معتاد على ممثلي مرجعية النجف، أثار حملة استهجان واسعة، وأعاد للمجال العام النقاشات المتعلقة بسلطة المؤسسة الدينية الشيعية ودورها ما بعد 2003، فإن كان بإمكان المؤسسة الدينية الضغط على الطبقة السياسية لماذا لم يتم استخدام هذا الضغط من أجل معالجة تردي الظروف المعيشية والخدمية التي تواجه المواطنين؟. 

 

تاريخيّاً تحاول المؤسسة الدينية في النجف التعاطي بشكلٍ إيجابي مع المجتمعات الشيعية المختلفة، نظراً لتأثرها بعطاء الخمس الذي يأتي من الأفراد والتجار الشيعة، الذين بإمكانهم إعادة توجيهه لمراجع آخرين في حال لم يلبّ المراجع الكبار مصالحهم. يخرج موقف الحسيني عن السياق التاريخي المعتاد لمواقف المرجعية. في حال إقرار تعديل قانون الأحوال الشخصية ستكون له انعكاسات سيئة على حقوق النساء والأطفال، إذ سيؤدي لحرمان عدد كبير من النساء من حقوق الإرث، فضلًا عن حضانة أطفالهن، وإعطاء الفرصة لشرعنة زواج القاصرات. سيؤثّر هذا على ديناميكية المجتمع العراقي الذي اعتاد على قانون الأحوال الشخصية الحالي المُقر منذ حوالي 60 سنة. ومن الممكن أن يدفع النساء المتديّنات الذين سيواجهن تقويضاً في حقوقهن المدنيّة إلى تقليد مراجع آخرين. 

 

لا يمكن الهروب من التأثيرات الاجتماعية لمسألة التقليد في المجتمع الشيعي، وقد واجهت المؤسسة الدينية التقليدية في النجف تحديّات تاريخية جراء ذلك، آخرها بروز المرجع محمد صادق الصدر كقوّة أساسيّة نتيجة إعطائه أبناء القرى والأرياف في مدن وسط وجنوب العراق حق دراسة العلوم الدينية والتفافهم حوله بسبب ذلك. مثل هذا الحق كان مقوَّضاً قبل محمد الصدر وكانت العلوم والمراتب الدينية حكراً على العوائل في النجف وكربلاء. وإن بروز "مرجع غير تقليدي" يستند على مثل هذه المظالم الاجتماعية أمر وارد بعد وفاة السيستاني، وسيؤدي ذلك لتقويض نفوذ المؤسسة الدينية مقارنة بالشكل الذي اعتادت عليه الآن.


ما بعد السيستاني


من غير المتوقع أن تعمد المؤسسة الدينية إلي انتهاج سياسات تتعاطى مع التغيّرات السياسية والاجتماعيّة في العراق الآن. بشكل أساس نتيجة حالة الجمود والترقّب لفترة ما بعد السيد السيستاني، فضلاً عن وجود اعتقاد لدى بعض كبار رجال الحوزة بأن المؤسسة الدينية ليست بحاجة لذلك نظراً لوجود نوع من الحماية الإلهية -الغيبيّة- تجاهها. إلّا أنّه لا يمكن الهروب طويلًا من لحظة إعادة تشكيل النفوذ في الأوساط الشيعية بعد وفاة السيستاني، ووجود لاعبين بارزين جدد مثل الولائيين المدعومين حكوميّاً وإقليميّاً. بعد تخلخل النفوذ الإيراني في لبنان جرّاء الضربات الموجعة التي لحقت بحزب الله، فضلًا عن سقوط نظام بشّار الأسد الحليف لإيران، ستتوجّه الأنظار الإيرانية صوب تكريس نفوذ سياسي واجتماعي وديني في العراق باعتباره جزءاً من الأمن القومي الإيراني، وليست المؤسسة الدينية في النجف ببعيدة عن الضرر.

 

في ظل هذه الظروف يبدو السيناريو الأكثر منطقيّة أمام المؤسسة الدينية لفعله هو الانفتاح على المجتمع العراقي أكثر، والتعاطي بصورة جادة وحقيقية مع مخاوف المجتمع المدني النامية ومطالبات العيش الكريم لدى المواطنين وأن تطلب ذلك إجراء تعديلات جادة وحقيقية على النظام السياسي الحالي. سيدعم الاختيار السريع لمرجع ذو عمر أصغر من أقرانه هذه العمليّة. وخاصّة إن حظي بدعم شبكة السيستاني الحالية من المؤسسات والعلاقات، وأخذ على عاتقه الاستمرار بخط السيستاني بعدم السماح بإنشاء دولة دينية في العراق، أو تمدد النفوذ الإيراني أكثر. بالإضافة لتدعيم خطاب وطني سياسي ينظر إلى النجف كجزء من هويّة "الأمة العراقيّة".

الفضل أحمد باحث وكاتب يركز على الشؤون السياسية والتغيّرات الاجتماعية في وسط وجنوب العراق

نُشرت في الأربعاء 25 ديسمبر 2024 06:50 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2024 الجبال. كل الحقوق محفوظة.