فلاحو الديوانية يحصدون الديون بدل العنبر.. يسقون الأراضي والحيوانات بـ"ماء الآرو"

10 قراءة دقيقة
فلاحو الديوانية يحصدون الديون بدل العنبر.. يسقون الأراضي والحيوانات بـ"ماء الآرو" جفاف قرية النغيل، حنوبي الديوانية

شح المياه يجعل عمل المزارعين "لعبة يا نصيب"

يستيقظ حيدر (60 عاماً) قبل طلوع الشمس -كعادة جميع الفلاحين- ليتفقد حقل الشلب (الرز) خاصته، الذي يهلك أمام عينيه منذ أسبوعين، بسبب شح المياه. لم يزرع حيدر الرز منذ 5 سنوات بسبب الجفاف، واستبشر بهذا الموسم خيراً، هو وجيرانه وأبناء قريته "النغيل". فقد رأوا ارتفاع مناسيب المياه في شط غماس (أحد أفرع نهر الفرات)، الأمر الذي دفعهم لزراعة أرضهم بالعنبر (أجود أنواع الرز).

تقع قرية النغيل في أقصى جنوب الديوانية، وتحولت في السنوات الأخيرة من واحة زراعية خضراء إلى أرض تعاني الجفاف واليأس والعطش. هذه القرية، الأكبر في قضاء غماس بمحافظة الديوانية من حيث الكثافة السكانية والمساحة الجغرافية، كانت تعتمد بصورة رئيسة على نهرها لتوفير المياه الضرورية للزراعة ولحيواناتها، لكن اليوم، يجد المزارعون أنفسهم في مواجهة أزمة غير مسبوقة. 

في زيارة سابقة لقرية النغيل في حزيران الماضي، وعد محافظ الديوانية عباس شعيل الزاملي المزارعين بموسم زراعي وفير ومزدهر، مما بث الأمل في قلوب الفلاحين الذين عانوا من سنوات عجاف، ولكن سرعان ما تبخرت هذه الوعود عندما جف الثلث الأخير من النهر، تاركاً المزارعين في حالة من الإحباط والعجز.

"أبو مهند العظماوي"، مختار القرية، يروي كيف أن زيارة المحافظ أثارت توقعات كبيرة بين الناس، وزادت من حماس الفلاحين. لكنها انتهت بخسائر مالية فادحة للمزارعين، الذين أنفقوا ملايين الدنانير على زراعة محاصيلهم. على الرغم من إمكاناتهم المالية الضعفية. 

بالمقابل يقول نجاح النبهاني، مدير شعبة زراعة غماس : "في هذا الموسم، وجهنا المزارعين بعدم زراعة الأراضي التي تروى من الأنهار الفرعية، لكن عنادهم جعلهم يخالفون التعليمات ويزرعون، ما تسبب لهم بخسائر مالية كبيرة"، ويضيف النبهاني قائلاً: "يعد قضاء غماس سلة غذائية مهمة حيث يضم 172,000 دونم زراعي، منها 41,000 دونم تزرع الرز بنوعين (العنبر والياسمين). في أوقات المحاصيل الوفيرة، تجاوز محصول غماس من الرز الـ 40 ألف طن، مما يجعلها إحدى أهم المناطق الزراعية في البلاد".

"زراعة اليانصيب"

 

اعتاد فلاحو الفرات الأوسط على استثمار أموالهم في موسم زراعة الرز، إذ تتطلب زراعة هذا المحصول تكاليفاً عالية نسبية بالمقارنة مع بقية محاصيل الحبوب. فالتكاليف تبدأ بحرث الأرض وتسويتها، وشراء البذور التي وصلت هذا العام لـ200 ألف دينار للمائة كيلو من بذور العنبر. وشراء السماد والمبيدات العشبية وغيرهاونسبة كبيرة من المزارعين تعمد أسلوب الدفع بالآجل الذي تتضاعف فيه أسعار الأسمدة والبذور.

وبما أن الفلاحين في الديوانية بصورة خاصة والمحافظات الوسطى بصورة عامة، أصحاب دخل ضعيف، فإن زراعتهم تصبح عبارة عن استثمار في اليانصيب؛ فإذا نجح المحصول وحصدوا، فإنهم يستردون خسائرهم مع ربح يكفيهم لعيش الكفاف، وإذا هلك المحصول فإنهم يغرقون في دوامة من الديون، لن يخرجوا منها إلا بعد سنوات.

 

ورّطهم المحافظ

 

العظماوي يوضح أن الإدارة المحلية بالديوانية، كانت قد نصحت بعدم الزراعة لهذا الموسم بسبب نقص المياه، ولكن كلام المحافظ الذي كان خلاف تعليمات الإدارة المحلية منح أملاً كاذباً للفلاحين. "ورّطنا المحافظ بالزراعة"، هكذا وصف مختار قرية النغيل ما جرى للمزارعين، متأسفاً على حجم الخسارة والخيبة التي شعر بها هو وبقية رفاقه. لم تتوقف المعاناة عند ذلك، حيث أن المزارعين اضطروا لشراء ماء الشرب والتغسيل، فيما حيواناتهم عطشى وتعاني.

حيدر الميالي، أحد المزارعين، يصف الوضع بأنه "كارثي"، فضلًا عن أن "الماء لا يصل إلينا"، يقول الميالي بأسى. ويطالب بالتعويض وتوفير ماء الشرب. الخسائر المالية كانت هائلة بالنسبة للفلاحين المعدمين، فكل مزارع خسر ما لا يقل عن ثلاثة ملايين دينار عراقي، ناهيك عن التكاليف الأخرى مثل البذور والسماد التي تم شراؤها بالدين. حتى الوقود اللازم لتشغيل المضخات أصبح صعب المنال. "الحيوانات شربت من ماء الآرو الليلة الماضية"، يضيف حيدر، مشيراً إلى أن "الوضع أصبح يائساً لدرجة أن الماء المخصص للشرب بات يستخدم لسقي الحيوانات".

من جانبه، يشرح خالد سوادي، أحد سكان القرية، كيف أن الاعتماد على مياه الآبار لم يعد كافياً. "البريمة جفت"، يقول سوادي، مشيراً إلى أن "الآبار التي كانت توفر المياه للقرية أصبحت جافة. يضيف السكان في قرية النغيل بحسرة أن "الزرع مات والحيوانات هلكت، والناس في القرية يعيشون منذ أكثر من 15 يوماً دون ماء كافٍ. "خدعونا"، يقول سوادي ملخصاً مشاعر الخيبة والغضب التي يشعر بها سكان القرية إزاء المحافظ عباس شعيل الزاملي ووعوده.

معاناة المزارعين في قرية النغيل ليست مجرد قصة محلية في قرية منسية، أبطالها فلاحون معدمون. بل هي أنموذجاً للواقع الزراعي وتحدياته في الفرات الأوسط، وسط التقصير الحكومي، فضلاً عن شح المياه والتغيرات المناخية التي تؤثر في الفئات الهشة أولاً، والسياسات الزراعية غير الفعالة، كلها عوامل ساهمت بتدهور الزراعة في البلاد. النغيل هي نسخة بالكربون لعشرات القرى المماثلة في الديوانية والفرات الأوسط.

 

 

نهاية العصر الذهبي

 

عباس إبراهيم (30 عاماً)، يزرع الرقي منذ 15 عاماً في مزرعته التي ورثها من أسلافه، في قرية الثريمة التي استمدت اسمها من "نهر الثريمة" الذي يتفرع لعدة فروع تعيش على ضفافها أكثر من عشرين قرية، بقضاء عفك، شمال شرق الديوانية. كانت الثريمة في عصرها الذهبي تزرع مختلف المحاصيل الزراعية في مقدمتها الرقي، وهو أفضل أنواع الرقي في المحافظة. فضلاً عن محاصيل أخرى مثل الحنطة والشعير والباذنجان وبقية المحاصيل التي ترفد أسواق الديوانية.

 اليوم بات إبراهيم وأبناء قريته، يحفرون الآبار لسقي مزروعاتهم البسيطة، والتي ما عادت تسد رمقهم. انتهى الرقي في الثريمة وهجر الفلاحون قراهم. يقول صاحب مزرعة الرقي "منذ أربع سنوات ونحن نحفر الآبار، التي تجف باستمرار ونضطر لحفر آبار أخرى باستمرار. ومياه الآبار تصبح مالحة أحياناً، مما يسبب أمراضاً جلدية للكثيرين. يضطر بعضنا لشراء المياه بواسطة شاحنات مياه، 5000 دينار للسيارة كل يومين، لغرض التغسيل والشرب. نحن لا نرى المياه في نهر الثريمة سوى في مواسم الانتخابات، حيث ننعم بالمياه لأسابيع قليلة ثم تختفي!". 

ويقول أحمد صگر الباشات، عضو مجلس محافظة الديوانية، إن "الحكومة المحلية الجديدة تكافح من أجل توفير مياه الشرب للمواطنين، أما الزراعة فقد انحسرت على نطاق واسع". ويضيف الباشات، أن الديوانية بعدما كانت تمثل المحافظة العراقية الأولى بزراعة الشلب، والذي يمثل تراثها الموغل في القدم، باتت اليوم تزرع "بشك قليل، فحصتها الشلبية تقلصت لـ 90 ألف دونم فقط هذا العام، بعدما كانت تزرع مئات آلاف من الدوانم". ويؤكد الباشات، أن هذه الأزمة لا تتعلق بالحكومة المحلية التي تتولى تنظيم توزيع المياه المتوفرة فقط، بل تتعلق بالحكومة المركزية". 

 

 

مستقبل جاف

 

بحسب تقرير المناخ والتنمية الصادر عن البنك الدولي عام 2023، فقد ينخفض توافر المياه في العراق بنسبة تصل إلى 20% بحلول عام 2050 بسبب تغير المناخ. وستؤثر درجات الحرارة المتزايدة سلباً على المحاصيل في الشرق الأوسط، ومن المتوقع أن يشهد العراق آثاراً سلبية أكثر من معظم البلدان الأخرى. يؤثر ارتفاع درجة الحرارة سلباً على بعض المحاصيل وخصوصاً القمح والحبوب الخشنة. ومن المتوقع أن يكون لانخفاض توفر المياه وإنتاجية المحاصيل تأثير سلبي كبير على الناتج المحلي الإجمالي، ولكن تحسين فعالية استخدام المياه قد يخفف بعضاً من هذه الآثار. 

ويعاني 60% من الفلاحين في العديد من المحافظات العراقية من تقليص المساحات المزروعة وخفض كميات المياه المستخدمة، وفقاً لاستطلاع أجرته منظمة "المجلس النرويجي للاجئين" غير الحكومية. ودعت المنظمة السلطات إلى تحسين إدارة الموارد المائية. وأُجريت الدراسة  في أربع محافظات عراقية، استنادًا إلى نتائج الحصاد وتأثير الجفاف على الأسر، وتمت مقابلة 1079 شخصًا. وكانت 40% من العينة من النساء و94% من المستطلعين من سكان المناطق الريفية. وذكر تقرير المنظمة أن "نحو 70% من المزارعين الذين شملهم المسح يستخدمون الري بالغمر، وهي طريقة تُعتبر الأكثر استهلاكًا للمياه وغير مناسبة للمناطق المعرضة للجفاف الموسمي".

 

 

تقصير الفلاحين

 

يقول أحمد سامي، وهو مهندس زراعي من خلفيات فلاحية في محافظة الديوانية، بأن الزراعة في المنطقة الوسطى من العراق تشهد تدهورًا ملحوظًا نتيجة لعدة عوامل. وأوضح أن الاعتماد على الأساليب القديمة لا يزال قائمًا، حيث يستخدم العديد من المزارعين طرق الري التقليدية مثل الري (السيح)، على الرغم من وجود تقنيات حديثة وفعالة تم تطبيقها بنجاح في العديد من مناطق العراق.

وأضاف سامي أن قصر نظر الفلاحين جعلهم يزرعون محصولي الحنطة والشلب فقط، متجاهلين إمكانية زراعة المحاصيل الأخرى مثل البقوليات والخضروات في البيوت البلاستيكية، التي تدر عائدًا أسرع وأعلى، حيث يمكن للفلاح بيع المحاصيل كل 21 يومًا.

وتابع قائلاً إن خصوبة الأرض تتدهور بسبب زراعة الحنطة والشلب سنويًا، مما يؤدي إلى فقدان الأرض طاقتها ومعادنها، مشيراً إلى أن "الحل يكمن في زراعة البقوليات أو ترك الأرض بدون زراعة لمدة سنة أو استخدام تقنيات الزراعة المتناوبة لزيادة خصوبة التربة".

كما أشار سامي إلى أن "توجه الفلاحين نحو التعيين في الجيش أو التطوع في الحشد الشعبي، أو الحصول على راتب الرعاية الاجتماعية، أسهم في تقاعس الفلاحين وتراجع اهتمامهم بالزراعة وتطويرها". وأكد أن هذه المشكلة "تتطلب تدخلاً عاجلاً لتغيير الاستراتيجيات الزراعية وتعزيز الوعي بين المزارعين حول الأساليب الحديثة والأنشطة الزراعية المتنوعة".

 

 

جفاف نهر قرية "الثريمة" التي تشتهر مزارعها بزراعة الرقي 

 

 

سكان قرية النغيل يتحدثون عن خسارة الاموال والزرع 

 

 

محاولات يائسة للحصول على مياه سقي المزروعات 

 

 

 

الجبال

نُشرت في الثلاثاء 30 يوليو 2024 08:47 ص

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية

© 2024 الجبال. كل الحقوق محفوظة.