لماذا لم تطبق الأمة الديمقراطية مبادئها ومتبنياها؟ هل فشلت نظريات الديمقراطية في التطبيق الفعلي؟ لماذا لم تنجح النظريات النسوية على صعيد الرئاسات لاسيما في الولايات المتحدة؟ قد تبدو هذه الأسئلة بديهية وهناك سهولة في الإجابة عليها، إلا أنها في حقيقتها، تناقضات نظرية وعملية في آن واحد، تجعلنا أمام نقاش مفتوح في متبنيات الأشياء، لاسيما فرضية النساء والسلام، التي تعد أحد فرضيات النظرية النسوية في القيادة والعلاقات الدولية، وفرضية أن الحرب المحرك الأساسي للفوز والخسارة، وهذا يبدو واضحاً من خلال النظرة العامة على التجربة الانتخابية الأمريكية، على فترتين متفرقتين، اللتان تجمعنا فرضية النساء والحرب بصورة واحدة، ففي الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، كانت الأزمة السورية من أهم القضايا التي تركز عليها السياسات المتحملة للمرشحين بالسباق الانتخابي وهمها وزير الخارجية الامريكية (هيلاري كلينتون) في رئاسة بوراك أوباما، والمرشح الجمهوري رجل الأعمال (ترامب).
"النساء متشابهات"
وعلى الرغم من اختلاف الفترة الزمنية والأحداث والتغير في طبيعة القضايا المهمة بين انتخابات 2016 و2024 في أمريكيا، الا انها في كلتا الفترتين تشابهت في الفواعل، تشابهت في المرشحين المرأة مقابل الرجل، الشخصية المسؤولة في صنع القرار وضمن الإدارة أمام شخصية خارج دوائر الإدارة أو النظام البيروقراطي في الولايات المتحدة، الرجل واحد وامرأتان مختلفتان، وهذا أمر مثير للاهتمام في السباق الانتخابي، وكذلك العملية الديمقراطية، وذلك ينعكس من معاناة كلينتون في حصولها على التأييد للترشح كأول امرأة لمنصب الرئيس، وكذلك أهمية هاريس كبديل يُعول عليه في إدارة الديمقراطية.
وعلى الرغم من محاولات هاريس الابتعاد عن استراتيجية كلينتون قدر الإمكان، لاسيما في مسألة العرق والجنس واعتبارها أول امرأة تُرشح للرئاسة إلا أنها متشاركة معها في العديد من القضايا. الاثنتان يتهمن في حقوق المرأة وهذا واضح مثلاً في تبني هاريس (حق الإجهاض) وحديث كلينتون عن حقوق المرأة بحالة من الشجن الكبير في مؤتمر الحزب الديمقراطي لهاريس، كذلك أن الاثنتين يترشحن ضمن سلم قيادي بارز واحدة كنائب للرئيس، وواحدة كوزير خارجية، والاثنتين موجودتين ضمن الإدارة الامريكية في أهم فترات الصراع في مناطق النفوذ الامريكية خلال الأزمة السورية عام 2016 لكلينتون وأحداث 7 أكتوبر لهاريس. الإدارات الامريكية الديمقراطية مسؤولة عن زيادة نشاط الحركات التطرفية، وكذلك سوء إدارة الازمات الخارجية لاسيما الصراعات المسلحة التي حدثت.
سوريا تقود كلينتون إلى الخسارة
يلعب ملف السياسة الخارجية دور محوري ومهم في السباق الانتخابي الأمريكي، لاسيما في وقت الصراعات أو الحروب الدائرة في المنطقة الإقليمية لأمريكا او العالم، او مناطق النفوذ والمصالح الامريكية وخصوصاً الشرق الأوسط، وعام 2016 كانت الازمة السورية، وما يليها من تداعيات لها أثر في السباق الانتخابي، الدائر بين المرأة والرجل، السلام والشدة، إلا أن الامر بدا مختلفاً، فمن خلال الخطاب الانتخابي لكلينتون تبين انها اكثر شدة للحرب واستخدام السلاح واستخدام القوة لتحقيق الديمقراطية، فكانت تدعو بشكل واضح الى استخدام السلاح ضد النظام الساسي السوري، والتدخل الصريح والكبير للولايات المتحدة في العملية السياساتة من اجل تحقيق الديمقراطية، ودعمت فكرة انشاء منطقة حظر الطيران لتقييد النظام، على عكس خطاب ترامب الذي اعلن في خطابه ان الهدف الأساسي والاولوية للولايات المتحدة هي القضاء على داعش وانهاء خطر تهديد داعش من خلال العمليات التكتيكية وليس التدخل في الصراع المعقد السياسي في سوريا بين النظام والمعارضة، وكذلك ليبعد تداعيات الصراع عن المواجهة الروسية في سوريا التي تدعم النظام.
عدُ الكثيرون أن احد اسباب خسارة كلينتون امام ترامب عام 2016، هي مواقفها المتشددة بالأزمة السورية التي قد تكلف الولايات المتحدة المزيد من الخسائر وكذلك تناقض فكرة السلام، وانها الحروب، لاسيما بعد فشل الفرضية الامريكية حول احقية استخدام القوة او السلاح من اجل التغير الديمقراطي الإيجابي او الأفضل في كل من العراق، وأفغانستان، وكذلك ملامح الفشل في سوريا، لاسيما وان الإرث السياسي لكلينتون يتميز بالنهج التقليدي التي دعمت من خلاله التداخلات الامريكية السياسية والعسكرية في ليبيا والعراق وأفغانستان، والتي كان الشعب الأمريكي غاضباً بسببها على هذا الإرث.
هل كانت هاريس تعلم ذلك؟
منذ فوز بايدين برئاسة أمريكيا وترافقه هاريس كنائبه للرئيس، كانت هناك ملفات مهمة عليهم التعامل معها، وابرزها الحرب الروسية – الأوكرانية، ومنذ بداية الحرب زج بايدين بهاريس على طاولة الحرب وكلفها في قيادة الدبلوماسية الامريكية مع الجانب الغربي لتحشيد ضد روسيا، وكانت اول مهمة لها لقاء الريس الفرنسي ماكرون، ومنذ الاحداث 7 أكتوبر، لم تحد هاريس عن سياسة بادين في إدارة الحرب او الصراع، حتى مع ترشحها رسيما للرئاسة الامريكية لخلفاً للمرشح المنسحب بايدين، لم تكن خطاباتها او مواقفها مغايرة عن سياسات بايدين في إدارة الصراع، السياسة التي يُشكل الكثير عليها، وهي عدم الاهتمام بالدخول او انهاء الحروب، في ذات الوقت يقدمون المساعدات لإدارة الحرب، لاسيما في حرب غزة، كانت هاريس ضمن الإدارة الامريكية التي تدعم إسرائيل بالجوانب كافة، وفي ذات الوقت تدعم الفلسطينيين، وتؤكد على حقوقهم، كذلك كانت هاريس دبلوماسية جداً وضمن سياق إدارة بايدين في الحديث والدعم مع إسرائيل خلاف الأبواب، ولكنها تقدم الانتقاد لهم في العلن وضمن الخطابات الانتخابية، لم تتوعد هاريس انهاء الحرب.
حاولت هاريس المرشحة الى جذب التقدمين الحزبين وكذلك الناخبين العرب الأمريكيين في الولايات المتأرجحة لتصويت لها، مستغلة اللعب على الحبلين في إدارة الصراع، والموازنة بين التركيبة السكانية الإنسانية والامن، الا ان الكثير من هذه الفئات ترى ان الإدارة الامريكية التي هاريس جزء منها فشلت في إدارة الصراع او احتواءه او تقديم ما يمكن الوثوق به لحل الازمة او الدعم الإنساني كما يدعون، وشكل عامل انهاء الحرب هاجس مهم لدى الناخبين، وهذا ما ادركه ترامب وعمل عليه في خطاباته، من خلال استراتيجية انتقاد إدارة بايدين وهاريس، وتأكيده على دعم إسرائيل الكامل والمطلق، وانهاء الحرب، هذا الخطاب الذي يرجح انه حفز الكثير من اليهود او الإسرائيليين المتواجدين في أمريكيا لتصويت الى ترامب مقابل هاريس لاسيما في ولايتي ميشيغان وبنسلفانيا، التي تعد ساحات معركة لكلا المرشحين وكانت هاريس تحاول تزع الامل فيها.
ختاماً
قد تكون من باب المصادفة او لحظة القدر ان تترشح امرأتان في فترات زمنية مختلفة الا انها متشاركة في ذات الظروف والاحداث والإدارات والأزمات، مما جعل حالة المقارنة عالية جداً، في نهج كل منهن، وكذلك التقدير غير المناسب لتحملهن تداعيات الإدارة التي هن جزءاً منها، لذا يرجح ان انسحاب بايدين من الرئاسة والدعم لتولي هاريس الترشيح، هو فرصة، وكأس مسموم في ذات الوقت قدمة بايدين لهاريس، مما لعب دور كبير في التأثير على الناخبين والتوجهات السياسية كذلك، منذ ترشح هاريس مثلاً اتخذ بايدين موقفاً مغايراً في اللقاءات الخاصة او العامة من خطابات هاريس اتجاه الازمة في الشرق الأوسط، مما جعل هاريس تحاول التناغم معه.
في ذات الامر نرى ان تعاملات هاريس وفق المبادئ الإنسانية والامن الموسع الذي يشمل النساء والأطفال، خصوصاً في الملفات التي تديرها هي بشكل مباشر مثل ملف المهاجرين والحرب في غزة، هذه المتبنيات التي تركز عليها النظرية النسوية، لم تنجح في دعم هاريس كثيراً للفوز، وحاول الناخبين التوجه الى المرشح المحافظ المتشدد الذي يركز على المصالح المحلية فقط دون ربط الحالات الإنسانية للأمن كما تنادي هاريس في التعامل مع المهاجرين او حرب غزة، اذ تعتقد ان تأثير هذه الفئات في الامن المحلي له دور كبير.