قرية واحدة في الناصرية تخسر مئات العوائل بسبب العطش.. "التبطين الخاطئ" عمّق المأساة

8 قراءة دقيقة
قرية واحدة في الناصرية تخسر مئات العوائل بسبب العطش.. "التبطين الخاطئ" عمّق المأساة

نصيب الفرد العراقي من المياه يتراجع بنسبة 23%

في قلب قرية "عبودة"، شرق الناصرية، كان محمد عطار (36 عاماً)، يتأمل أرض آبائه وأجداده التي اعتاد أن تزرع في كل موسم، لكن هذه المرة، لم يكن منظر الأرض كما كان، فبعد سنوات من الجفاف وشح المياه، تحولت المساحات الخضراء الواسعة إلى "صبخة"، متشققة، تتألم من قسوة الجفاف الذي لا يرحم.

 

قبل عدة سنوات، بدأ "عطار" وعائلته يواجهون معاناة كبيرة بعد أن انخفض منسوب المياه في "شط آل إبراهيم"، الذي كان يغذي القرية بشكل خطير، وعلى الرغم من ما فعلته السلطات لتبطين الشط، إلا أن العمل لم يكن مدروساً، فقد ارتفعت الأرضية المبطنة أكثر من المنسوب الطبيعي للمياه، مما زاد من تفاقم الوضع، وكانت النتيجة كارثية، ولم يعد بالإمكان زراعة المحاصيل، وماتت المواشي، وتحولت الحياة إلى كابوس.

 

الأمل والخوف 

 

تحدث "عطار" عن هذا الوضع بحرقة، مؤكداً أن "الحياة لم تعد تحتمل"، وأضاف: "لا يمكنني كسب الرزق، ولا أستطيع تأمين لقمة العيش لعائلتي"، قال أيضاً إن "فكرة الهجرة ولدت في ذهني. فكرة كانت تمثل الأمل والخوف في آن واحد". 

 

في تلك الفترة، لم يكن "عطار" وحيداً في معاناته، فهناك 11 قرية أخرى تقع في قضاء سيد دخيل شرق الناصرية، تأثرت بنفس الأزمة، هاجر العديد من سكانها بحثاً عن فرص أفضل، وشهدت قريته وحدها هجرة نحو 400 عائلة، جميعهم يبحثون عن مصادر ماء وحياة جديدة في المدن، خاصة في البصرة.

 

في ليلة مظلمة، اجتمع الشاب المزارع بعائلته، كانوا يفكرون في ما إذا كانوا سيتخذون القرار الصعب. كل فرد كان يحمل همومه وآماله، وبعد نقاشات طويلة، اتفقوا على الهجرة. كانت قلوبهم مثقلة بالذكريات، لكن العيش بلا ماء ولا زراعة، كان أسوأ.

 

لم تكن مهنة الزراعة هي السبيل الوحيد لرزق "عطار". هو رجل متعلم حاصل على شهادة البكالوريوس، وهذا الأمر نفعه كثيراً، إذ حصل على فرصة للتعيين في إحدى المؤسسات الحكومية التربوية، وبالتالي استطاع أن يجد بديلاً لعمله السابق.

 

مشاريع التبطين 

 

محافظة ذي قار التي تقع في جنوب العراق تضم أكبر شبكة أروائية من جداول وقنوات تغذي جميع الأراضي الزراعية على مستوى البلاد، وفي آخر مسح وثقها الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط لعام 2020، بيّن أن "أطوال الجداول المبطنة والترابية والفرعية والثانوية بلغت 11175 كيلو متر، لكن من هذه الأطوال، فإن نسبة التبطين لا تتجاوز الـ 1%، أي بمقدار 114 كيلو متر طول"، في الوقت الذي يؤكد مختصون وخبراء في الشأن المائي، أن عملية التبطين تسهم بشكل كبير في تقليل نسبة الضائعات التي تصل نسبتها في الكيلو المتر الواحد غير المبطن ما بين 25% الى 50%، وهذه النسبة كبيرة، ولكن الأمر يكون خاضع للشركات المختصة والمعنية بشأن عملية التبطين لمعرفة الارتفاع ومستوى التصريف المائي في الجدول حتى يكون هناك دراسة لكل واحد منهم.

 مدير الموارد المائية في محافظة ذي قار، هاشم محيبس، كشف في تصريح لـمنصة "الجبال" عن الكلف العالية التي تواجه مشاريع التبطين في الجداول المائية بالمحافظة، حيث بيّن أن "الجداول والقنوات الريفية المبطنة في ذي قار تعد قليلة، رغم أن أطوالها كبيرة، مما يزيد من كلفة تنفيذ هذه المشاريع".

 

وأوضح أن "كلفة المتر الواحد من التبطين تعتمد على مستوى تصريف المياه وعمق القناة، حيث تبلغ كلفة الجدول المائي الذي تصل تصريفاته إلى 5 متر مكعب في الثانية نحو 500 مليون دينار، مع العلم أن عرض أرضية الجدول المبطن يبلغ 2.5 متر، بينما قد يصل العرض في الأعلى إلى 11 متراً".

 

ولفت محيبس إلى أن "الكلف قد تتغير بناءً على طبيعة كل جدول مائي".

 

وأبرز الجداول المائية المبطنة حالياً، مثل شط آل إبراهيم الذي يمر وسط قرية عبودة، وبعض الأنهار في قضاء النصر شمال المحافظة.

 

وقال محيبس إن "المديرية تعمل وفق خطة سنوية لتطهير الجداول غير المبطنة، وفي عام 2024، بلغت الخطة المقترحة لتطهير الجداول 1700 كيلومتر، حيث تم إنجاز 90% من هذه الخطة حتى الآن".

 

 وتتضمن عملية التطهير رفع الترسبات وإزالة النباتات المائية مثل القصب والبردي، بالإضافة إلى الأدغال.

 

ولفت المسؤول الى أن عمليات التبطين لو كانت قد تمت بشكل مسبق، لكانت قد "خفّضت من تكاليف التطهير، مما يسمح بتغطية الشبكة الريفية بكفاءة أعلى، وتقليل الضائعات، وتحسين انسيابية حركة المياه".

 

تقنية جديدة 

 

وزارة الموارد المائية وعلى لسان وزيرها في تصريح سابق عون ذياب، كشف  عن تقنية جديدة للسيطرة على الضائعات المائية تم استخدامها عبر "تقنية اللحاف الخراساني في التبطين".

 

وخلال افتتاح مشروع في قضاء عفك بمحافظة الديوانية، "استخدمت فيه هذه التقنية ولاقى الأمر ترحيباً من الفلاحين إذ تحول مجرى النهر كذلك من ملوث إلى نظيف فضلا عن تقليل الضائعات"، حسب كلام الوزير.

 

وأشار ذياب إلى أن "التقنية ممكنة لفروع الأنهر فقط وليس في نهري دجلة والفرات بسبب عرضهما الكبير وتطلب الأمر تكاليف ضخمة للغاية، ومن الممكن أن تشمل الفروع  الرئيسية كنهر الدجيل وشط الدغارة وأجزاء من شط الحلة وشط الديوانية، ومتوجهون لتعميم تقنية اللحاف الخراساني كجزء أساسي من عمل الوزارة".

 

حصة العراقي من المياه 

 

وتشير البيانات إلى أن الانخفاض المستمر في الواردات المائية يتطلب اتخاذ حلول عاجلة للحفاظ على القطاع الزراعي في العراق وضمان استدامة الكميات السنوية المتاحة من المياه.

 

وأوضحت إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء أن الواردات المائية من نهري دجلة والفرات وروافدهما انخفضت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة.

 

وفي السنة المائية 2012-2013، بلغت الواردات المائية 56.02 مليار متر مكعب سنويًا، إلا أنها انخفضت في السنة المائية 2019-2020 إلى 49.67 مليار متر مكعب، مما يعني فقدان أكثر من 6 مليارات متر مكعب، كما تراجع نصيب الفرد العراقي من المياه إلى حوالي 23%، بعد أن كان 1569 متر مكعب في السنة.

الحاجة إلى خبرات 

 

يتطلب هذا الوضع معالجة سريعة واستراتيجيات فعالة للحفاظ على الموارد المائية وضمان استدامتها في مواجهة التحديات الراهنة، بحسب خبراء. 

 

أوضحت منار ماجد، التدريسية المتخصصة في الشأن البيئي بجامعة ذي قار، في تصريح  لمنصة "الجبال"، أن "المياه المفقودة في القنوات غير المبطنة تتراوح ما بين 25% إلى 50%، وهذه النسبة يمكن الاستفادة منها في حال كانت القنوات المائية مبطنة مما يقلل التسرب فضلاً عن عمليات التبخر في فصل الصيف".

 

وقالت إن "القنوات غير المبطنة من الصعوبة السيطرة عليها، خصوصاً وأن هناك حالات تجاوز تحصل على الجداول الرئيسية وهذا الأمر صعب السيطرة عليه".

 

وتابعت ماجد، بأن "عمليات التبطين تحتاج إلى دراسة ومسح كامل للجداول المائية سيما وأن التغيرات المناخية التي تسببت بشحة مائية نتج منها جفاف جداول كاملة وبالتالي تغير مسار الجداول والقنوات المائية".

 

وأوضحت أن الكلف الخرسانية لأعمال التبطين "عالية جداً" في ظل الظروف الاستثنائية التي مرت بالعراق من ناحية معارك التحرير وما أعقبها من ظروف خاصة.

 

 وبالتالي يمكن استخدام طريقة بديلة، وفق ما تقوله التدريسية في جامعة ذي قار، وهي استخدام نوع من أنواع الأطيان وهو طين الصلصال أو الطين المدموج والذي يفتقر للمسامات، وهو أشبه بالطين المتصلب، وبالتالي يكون تنفيذه أسهل ولا يحتاج اللجوء إلى الخرسانات التي تعتمد على مادة الإسمنت.

 

 لكن يسبق هذا الأمر، بحسب الأكاديمية، دراسات قبل التنفيذ، مضيفة: "ونحن أيضاً نحن نفتقر إلى شركات مختصة بعمليات التبطين، فهذه الأعمال تحتاج إلى مختصين وخبراء في هذا المجال".

 

 

 

الجبال

نُشرت في الأربعاء 6 نوفمبر 2024 11:00 ص

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية

12 بكسل 16 بكسل 24 بكسل

© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.