على مدى عقود تجربتي الحياتية شاهدت عدّة حالات لأصدقاء ومعارف يبدّلون أديانهم أو طوائفهم، بعضهم يتّجه من الإلحاد إلى الإيمان أو بالعكس، يتبنّى فكراً ماركسياً ثم ينقلب ليكون قومياً أو ليبرالياً، ولكني لم أشهد حالة واحدة لشخص غيّر قوميّته ولغته الأم، فاللغة "بيت الوجود" على رأي الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر. ليست اللغة فحسب؛ وإنما حتى اللهجة واللكنة، فهي تبقى غالباً ملتصقة بالشخص منذ ولادته، ومن العسير مفارقتها.
وحين تقترن اللغة بالعرق، فإنها تصبح إطاراً صلباً للهوية، وأقول إطاراً، بمعنى السياج الواسع، الذي قدّ تتغيّر التفاصيل التي في داخله، تتلاشى أو تستقدم تفاصيل من خارجها، حسب الظروف والسياق التاريخي.
عرفتُ شباباً من جنوب العراق كانوا أصوليين شيعة، ثم صاروا أكثر انفتاحاً على طريقة السيد كمال الحيدري، ثم أكثر انفتاحاً وجرأة على طريقة عبد الكريم سروّش، ثم تركوا الدين والطائفة بقضّها وقضيضها وصاروا ملاحدة. ولكنهم في كلّ هذه التحوّلات ظلوا جنوبيين عراقيين عرباً. وقد يهاجر بعضهم ويكتسب جنسيات أوربية، ثم يصير زمن العيش في البلد الأوروبي أطول عهداً من حياته الأولى، ويرى ارتباطاً نفسياً وثيقاً من الحياة الجديدة واللغة المختلفة عن لغته الأم، ولكن شيئاً ما ينتمي إلى اللغة الأولى ومحمولاتها الثقافية يبقى يطارده، ويبقى يشّع من داخله على قسمات هويته المركّبة التي يطالعها الآخرون.
إن احترام البعد القومي في هويتنا الوطنية العراقية، بهذه الحدود الثقافية والاجتماعية، لا بالمحددات الآيديولوجية القومية الناصرية والبعثية، ذات الأنفاس الشوفينية الاستعلائية، مهم جداً لإعادة التوازن الى أنفسنا، وأن لا تأخذ الهوية الطائفية ثقلاً أكبر من استحقاقها.
إن النظر الطبيعي إلى المحدّدات الأعلى لمكوّنات العراق أنه بلدُ يتكوّن من أربع قوميات؛ عرب وكرد وتركمان وسريان. فهذه ليست محدّدات لغوية فحسب، وإنما ثقافية واجتماعية، يصعب شطبها أو تغييرها مثل الأفكار والمعتقدات التي قد يتخلّى عنها الإنسان بين ليلة وضحاها.
إن الكردي الشيعي مثلاً سيجد أنه يضطر للتخلي عن كرديته في الحوار مع الأكثرية العربية الشيعية، ولن تبقى هويته كاملة العناصر بشطب البعد اللغوي والقومي. كذلك فإن الشيعي العربي لن يستطيع التواصل مع أكثرية من الشيعة الفرس أو الباكستانيين، وسيرى اختلافات ثقافية عديدة، يضطر لتجاوزها بتعلّم لغة هذه الأكثرية، ومع ذلك لن يكون منهم، لأنه سيبقى في كلّ ذلك في حالة قمع لبعد طبيعي في هويته؛ وهو البعد القومي واللغوي العربي.
ليست هناك منطقة صافية ونقية إسمها "الشيعة" أو "السنّة"، ودائماً ما يكون هذا الجانب الاعتقادي محمولاً على اللغة ومنتجاتها الثقافية.
إننا نؤمن بالإنسانية وحقوق الإنسان، مثل ملايين حول العالم، ولكن كل شخص ينطلق من محيطه الثقافي (المحمول على لغته) في فهم حقوق الإنسان والمنظومة القانونية والثقافية المرتبطة بها.
في مرّة قدّم مستشارون للرئيس التركي توركوت أوزال مقترحاً لحل المشكلة الكردية في تركيا، فقرأ أوراق المقترح ولم يفهم منها شيئاً، فأرجعها إليهم وعلق ساخراً ومنزعجاً: إنها شعر عربي!
كان يقصد طبعاً أنها كلام غير مفهوم، والأصل في هذا التشبيه، أن الكثيرين كانوا، في عهد الدولة العثمانية، يدرسون اللغة العربية مضطرين لمحاولة فهم النصوص القرآنية وتفاسيرها، وكانوا يقرأون الشعر العربي القديم من أجل تقوية معرفتهم بهذه اللغة، وكانت نصوصاً صعبة، حتى على العرب المعاصرين، فما بالنا بأصحاب لغة أخرى مثل التركية.
إن الفوبيا المنتشرة بين أوساط الاسلاميين من الحديث عن القومية، وربطها مباشرة، في منشوراتهم الدعائية والتحريضية، بحقبة البعث وصدام والقومية العربية، هو أمرٌ مبالغ به، ويُقصد منه منع الأجيال الجديدة من التفكير بالبعد القومي في هويتهم، وأنه لا يمكن شطبه، بل هو الأساس الأول لتأسيس هوية متوازنة، متنوّعة المصادر والعناصر، منفتحة غير متصلّبة، تتحاور مع الآخر المتداخل معها في الكثير من عناصر الهوية، ولا تغذي الكراهيات أو العنصرية والانغلاق.