التلاعب بالأرقام لإغراق الجمهور.. هل الأرقام التي تعلنها حكومة السوداني حول الاستثمارات صحيحة؟

التلاعب بالأرقام لإغراق الجمهور.. هل الأرقام التي تعلنها حكومة السوداني حول الاستثمارات صحيحة؟ جانب من العاصمة العراقية بغداد - AFP

كعادة الجهات المسؤولة والحكومات العراقية المتتالية، يجد العراقي نفسه في دوامة لا يعرف طريقه فيها نحو الحقيقة، فالحكومات العراقية ناجحة جداً في صناعة "بروبوغاندا" إعلامية وتصريحات براقة تجعل المواطنين ووسائل الإعلام تصدق بأنها تعيش أحد أكثر العصور الذهبية التي قد تمر أو مرت في تاريخ العراق، لكن هؤلاء المواطنين، سرعان ما يشعرون بالحيرة و"أزمة الحقيقة" وأين يمكن إيجادها، بعد انتهاء الفترة الحكومية ومجيء حكومة أخرى، فكل التصريحات والمعلومات "الذهبية" في الحقبة السابقة، ستنسف بالحقبة التالية بمعلومات وتصريحات وأدلة، تشابه قوة أدلة الحكومة السابقة، حتى يجد الفرد نفسه ضائعاً وغير قادر على تشخيص الحقيقة.


في هذه الدوامة الكبيرة المستمرة منذ 20 عاماً، غالباً ما تكون الأرقام الملاذ الآمن للحكومات المتعاقبة لتصدير لعبتها الذهبية هذه، فالمواطن البسيط لا يعرف شيئاً عن الأرقام الكبيرة، ولا تفسير المصطلحات الاقتصادية الصرفة، لكن الطريقة التبشيرية التي يتحدث بها المسؤول وهو يعلن هذه الأرقام، تجعل المواطن يستشعر بأن "هناك شيء جيد يحصل"، دون معرفة مقدار جودته بالحقيقة.


أحد أبرز الأمثلة القريبة على هذه الدوامة المزمنة، هي أرقام الاستثمارات في العراق، التي تعتبر أكثر معلومة ترددها الحكومة سواء على لسان رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أو هيئة الاستثمار أو وزارة التجارة وهكذا.


تنوعت الأرقام التي أصدرتها الجهات المسؤولة عن حجم الاستثمارات التي حققتها الحكومة الحالية، وكان رقم 100 ورقم 60 مليار دولار أكثر ما يتردد بين الحين والآخر، وبالرغم من انه من الطبيعي ان تتغير أرقام وحجم الاستثمارات بين الفترات مع احتمالية توقيع عقود ودخول شركات استثمارية جديدة الى البلد، لكن ما يحدث في قصة حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في العراق، لا يمكن تفسيرها، فالأرقام ترتفع وتنخفض بشكل عشوائي، بل وتتضارب الأرقام بين مسؤول واخر في ذات الفترة الزمنية الواحدة. 


أقدم تصريح من الممكن التوصل إليه في حجم الاستثمارات الداخلة إلى العراق يعود لشهر أيلول 2024، عندما قالت هيئة الاستثمار الوطنية إنه منذ بداية 2023 وهي الانطلاقة الفعلية لحكومة السوداني، ولغاية أيلول 2024، بلغ حجم الاستثمارات 69 مليار دولار.


لكن بعد شهر واحد فقط من هذا التصريح، وتحديداً في تشرين الأول 2024، كشف مستشار رئيس الوزراء للاستثمار محمد النجار أن الاستثمارات في العراق وصلت إلى 100 مليار دولار خلال عامين، وهذا يعني خلال 2023 و2024 لغاية تشرين الأول 2024.


هذا التطور قد يوحي إلى ارتفاع الاستثمار أكثر من 30 مليار دولار خلال شهر، لكن هذا الأمر غير معقول ولا ممكن، وما يفسر هذا، أنه بعد شهر واحد فقط من هذا التصريح، كشف السوداني في تشرين الثاني/نوفمبر 2024 أن الاستثمارات في العراق وصلت إلى 62 مليار دولار، وبالرغم من قرب التصريح مما كشفته هيئة الاستثمار أكثر مما تحدث عنه مستشار الاستثمار محمد النجار، إلا أن هناك فرقاً أيضاً بقيمة 7 مليار دولار.


بعد ذلك بشهرين، في يناير 2025 قال السوداني أن حجم الاستثمارات العربية والأجنبية المباشرة في العراق بلغت 63 مليار دولار، وهنا لا تزال تصريحات السوداني مقبولة ومتناسقة حتى الآن، بارتفاع الاستثمارات مليار دولار بغضون شهرين، ربما نتيجة لتوقيع عقد استثماري يخص مصفى او مشروع نفطي او كهربائي معين.


لكن الغريب أن في أيار 2025 أي بعد 4 أشهر فقط، قال السوداني ان حجم الاستثمارات العربية والأجنبية المباشرة في العراق بلغت 89 مليار دولار.


هذا يعني ان الاستثمارات قفزت 26 مليار دولار بغضون 4 أشهر، لكن الأغرب انه في نفس الشهر، قالت هيئة الاستثمار الوطنية ان حجم الاستثمارات الأجنبية والعربية المباشرة في العراق بلغت 64 مليار دولار، أي انه مقارب لتصريح السوداني في مطلع 2025، ويتضارب تماماً مع الرقم الجديد الذي كشفه السوداني البالغ 89 مليار دولار، كما انه يتضارب مع تصريح لهيئة الاستثمار نفسها قبل أقل من العام وتحديداً في أيلول 2024 عندما قالت الهيئة ان الاستثمارات تبلغ 69 مليار دولار.


عند الدخول إلى عام 2025، بدأ الرقم الذي قاله مستشار السوداني للاستثمار محمد النجار البالغ 100 مليار دولار استثمارات في العراق، وهو الرقم الذي كان غريباً ولا يتطابق مع ما يتداوله السوداني وهيئة الاستثمار، بدأ يصبح هو الرقم الرائج في التصريحات الحكومية، ففي 31 اب 2025 قالت هيئة الاستثمار ان حجم الاستثمار بلغ أكثر من 100 مليار دولار خلال عامين.


لكن هيئة الاستثمار هذه المرة كشفت عن معلومات أكثر دقة وأهمية، حيث أوضحت أن هذه الـ100 مليار دولار مقسمة بواقع 38.6 مليار استثمار محلي، و64 مليار دولار استثمار أجنبي، هذا يعني ان الـ64 مليار دولار هو الاستثمار الأجنبي المباشر ومازال مستقراً كما هو من العام الماضي 2024.


لكن في أيلول 2025 أي بعد أيام من تصريح هيئة الاستثمار الوطنية، قال ان الاستثمارات البالغة اكثر من 100 مليار دولار "هي استثمارات أجنبية مباشرة"، وهو على ما يبدو خطأ في التصريح او محاولة تضخيم الرقم، فهذا الرقم ليس استثمارات اجنبية مباشر فحسب، بل معها استثمارات محلية كما كشفت هيئة الاستثمار ذاتها.


"نصف الحقيقة"


الخلاصة المتوقعة من هذه التصريحات هي ان حجم الاستثمار الأجنبي المباشر منذ مطلع 2023 وحتى الان هو حوالي 64 مليار دولار خلال حوالي 3 أعوام وليس عامين كما يكرر المسؤولون الحكوميون.


لكن حتى مع حقيقة وجود هذا الحجم من الاستثمار الأجنبي المباشر في العراق، إلا ان الحقيقة منقوصة، ولا يكشف هذا الرقم عن قصة نجاح، فلصافي الاستثمار الأجنبي المباشر رأي آخر.


يعرف الاستثمار الأجنبي المباشر، بحجم المشاريع والأموال التي تجلبها شركات ورجال أعمال من خارج العراق إلى داخل العراق، أما صافي الاستثمار الأجنبي المباشر هو الفارق بين ما يدخله الأجانب للاستثمار بالعراق، وما يخرجه أجانب اخرون من الاستثمارات في العراق وإنهائها ونقلها الى الخارج.


تظهر بيانات منظمة التجارة العالمية، أنه منذ 2014 وحتى 2024، كان العام 2022 هو ادنى الأعوام "بهروب" الاستثمارات الأجنبية خارج العراق، بعد تحسن تدريجي منذ 2014، لكن في أعوام 2023 و2024 عاد الانحدار بشكل كبير في "هروب الاستثمار الأجنبي".


في 2022 بلغ صافي الاستثمار الأجنبي المباشر "سالب" 2.08 مليار دولار، هذا يعني ان الاستثمارات الهاربة من العراق اكبر من الداخلة الى العراق بقيمة ملياري دولار.


اما في 2023 فبلغ صافي الاستثمار أي "هروب الاستثمار" بلغ 5.3 مليار دولار، اي ان الاستثمارات التي خرجت من العراق اكبر من التي دخلت الى العراق في 2023 بأكثر من 5 مليارات دولار، ولتوضيح الصورة، اذا كانت قيمة الاستثمارات الداخلة الى العراق في 2023 بلغت 30 مليار دولار، فلقد هرب وخرج من العراق 35 مليار دولار في نفس العام.


وفي 2024 ارتفعت قيمة "الاستثمارات الهاربة"، وبلغ الفارق بين الاستثمارات الداخلة والاستثمارات الخارجة "سالب 7.5 مليار دولار".

 

 

 

يتضح، ان الإعلانات الضخمة عن الاستثمارات الداخلة الى العراق، يشوبها أحيانا خلط بالأرقام بين الاستثمارات الأجنبية والاستثمارات المحلية، في محاولة لتضخيم رقم الاستثمار، بل ان تتبع التصريحات يثبت ان حجم الاستثمار ثابت منذ أكثر من عام عند 64 مليار دولار إذا صحت الأرقام التي تصدرها الجهات الحكومية.


بل الأسوأ من هذا، ان أرقام الاستثمارات الداخلة الى العراق، مهما كبرت، فهي أقل بكثير من أرقام الاستثمارات الخارجة منه، ما يعني ان لا فائدة حقيقية تذكر نتيجة عدم وجود استثمارات متراكمة لتحسين الاقتصاد، بل ما يدخل الى العراق، سيخرج مقابله كمية أكبر من الأموال والاستثمارات.

علي الأعرجي صحفي عراقي

نُشرت في الاثنين 29 سبتمبر 2025 03:10 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.