في وقتٍ مبكّر، وأثناء عملي في بغداد مراسلاً لراديو «بي بي سي» خلال أحداث العنف الطائفي (2005 – 2007)، أجريتُ مقابلةً مع قياديٍّ إسلامي. وبعد أن انتهينا من التسجيل، قال لي –خارج المقابلة– بنبرةٍ فكاهية إنّه، وحزبه بالضرورة، لا يؤمنان بالدولة الديمقراطية ولا بكلّ النظام السياسي الذي جاء به الأميركيون وفرضوه على العراق، وإنهم سيسعون إلى إقامة «الدولة الإسلامية» ولو على مترٍ مربّعٍ واحد متى ما توافرت الظروف المناسبة.
حينها شعرتُ بكآبةٍ شديدة؛ فهذا حزبٌ كبير وركنٌ من أركان النظام السياسي الديمقراطي الفدرالي التعددي، ومع ذلك يعمل من داخل النظام ضدّ النظام نفسه، ويتصرّف ببراغماتيةٍ تساير المطالب القانونية والدستورية، من دون أن يلتزم بها، بل يحاول فرض أجندةٍ مناقضةٍ تماماً تدمّر، في الواقع، مشروع الدولة الجديدة برمّته.
مشروع الدولة الجديدة ما زال مستمراً لسببٍ واحد: لدينا موارد «أحفورية»؛ نفطٌ مجاني يخرج من الأرض هبةً من الله. وليس لأنّ نظام الدولة فعّالٌ في إنتاج الثروة أو في توفير الوسائل القانونية التي تمكّن المجتمع من إنتاجها، كما هو الحال في البلدان الناجحة اقتصادياً وسياسياً ومؤسساتياً.
وخلال العشرين سنة الماضية فلتت ألسنةُ كثير من السياسيين بما يشبه مضمون كلام ذلك القيادي الإسلامي، ومن المؤكّد أنّ بعضهم ندم على تلك الفلتات. أما اليوم، ونحن نسمع سياسيين أو مدوّنين مقرّبين من أحزاب الإسلام السياسي يتحدّثون صراحةً، ومن دون خجل أو مواربة، عن إقامة الدولة الإسلامية أو الاندماج مع «الدولة الإسلامية الإيرانية» المجاورة، فليس في ذلك ما هو جديد أو مفاجئ؛ فهذه القناعة المضادّة للدولة الوطنية العراقية كانت حاضرة منذ البداية في عقول مؤسّسي النظام الجديد، للأسف.
لذلك لا أميل إلى التصوّر القائل بوجود مؤامرةٍ خارجيةٍ هي التي عرقلت نمو النظام الحالي وأدّت إلى فشله في تقديم الخدمات أو المتطلّبات الأساسية للشعب العراقي. نعم، هناك تدخّلاتٌ إقليمية ألحقت أذى كبيراً بالواقع الأمني والسياسي، خصوصاً في العقد الأول من عمر النظام، لكن جذور المشكلة كانت دائماً هنا، على أرضنا وفي وعي الطبقة السياسية الحاكمة.
الجذر الأعمق للمشكلة أنّ أحزاباً أو تياراتٍ سياسيةً غير ديمقراطية ولا تؤمن بالديمقراطية مطلقاً تصدّت لبناء نظامٍ ديمقراطيٍّ فعّال. وهي قد تمارس، داخلياً، شكلاً من أشكال الاقتراع والتصويت لاختيار زعاماتها، وتؤيّد استثمار هذه الآلية في الانتخابات العامة، لكنها تقف عند هذا الحدّ فحسب، ولا تتبنّى كامل الحزمة التي يقوم عليها النظام الديمقراطي. فعلى الرغم من مرور أكثر من عشرين سنة على هذا النظام ما زال يعاني مشكلة الالتزام بالدستور؛ إذ يلجأ الفاعل السياسي المتنفّذ أحياناً إلى تأويلاتٍ تعسّفيةٍ لبعض مواد الدستور بما يضمن استمراره في السلطة.
كذلك فإنّ المساواة في الترشيح والاقتراع غير مضمونة، فهي تمرّ عبر مزاج الكتل السياسية الكبرى. ويعرف كلّ العراقيين أنّه لا توجد حتى الآن سيادةٌ حقيقية للقانون، ولا تشريعٌ نافذٌ ينظّم آلية تشكيل الأحزاب، فيما تُخترق الهيئات الرقابية بالمال والولاءات السياسية، ولا ضمان لحرية التعبير والإعلام، ولا حماية لحقّ الاختلاف، مع محاولاتٍ مستميتة لفرض لونٍ واحد حزبيٍّ وطائفي على الفضاء العام.
إنّ الدولة العراقية، بحكوماتها المتعاقبة منذ 2003 إلى اليوم، لا تسير وفق رؤيةٍ داخليةٍ واضحة في التنمية والتطوّر وتدعيم أسس الدولة، بل تستجيب للمحرّضات الخارجية التي تفرضها صراعات القوى الإقليمية والدولية في المنطقة.
فعلى سبيل المثال؛ محاولاتُ حصر السلاح بيد الدولة لم تنطلق من مبادرةٍ وطنية، بل جاءت استجابةً لتهديداتٍ خارجيةٍ بفرض عقوباتٍ على العراق. وإذا ضعف ذلك التهديد أو تراخى، خمدت هِمّة مكافحة السلاح غير القانوني.
إنّ السياسي العراقي المشغول بحلم «الدولة الإسلامية» ليس معنيّاً ببناء الدولة العراقية، بل منشغلٌ بمعارك طاحنة مع الجميع من أجل فرض دولته «حين تكون الظروف مناسبة». وهو مستمرّ في ركل كلّ مشاكل العراق إلى الأمام، متمنّياً تلك اللحظة المثالية التي يستطيع فيها بيع النفط للعالم كما يبيع باعةُ الأسواق الشعبية بضاعتهم، من دون رقابة ولا محاسبة، لينفرد بمتره المربّع الخاص داخل أرض العراق، بعيداً عن التوازنات الإقليمية والدولية وبعيداً عن إرادة الشعب العراقي. والمأساة أنّ هناك من يتوهّم أنّ هذا الحلم قابلٌ للتحقّق.