منذ سنوات طويلة يتصدر ملف الكهرباء قائمة أزمات العراق المزمنة، ومع كل صيفٍ لاهب يتجدد الحديث عن الحلول الممكنة، كان أبرزها مشروع الخصخصة الذي رُوّج له كخيار حتمي لإنقاذ المنظومة المتداعية، غير أن هذا المشروع، الذي دخل حيّز التنفيذ في بعض مناطق بغداد وعدد من المحافظات الوسطى والجنوبية، لم يُكتب له النجاح الشامل وظل حبيس التجارب الجزئية، في وقت نجح فيه إقليم كوردستان بتطبيق الخصخصة بشكل كامل وتحقيق قفزة نوعية في ملف الطاقة.
وتجربة الخصخصة في الطاقة الكهربائية التي باشرت بها وزارة الكهرباء بشكل جزئي، تعني إحالة تزويد المناطق السكنية لإحدى الشركات الاستثمارية لغرض إدارة عملية التوزيع من خلال قيام الأخيرة بصيانة المحولات وشبكات التوزيع ومنع التجاوز على المنظومة الوطنية، فضلا عن استحصال الفواتير مقابل تجهيز المواطن بـ 24 ساعة من الكهرباء.
الحكومات العراقية المتعاقبة طرحت الخصخصة باعتبارها مخرجاً من مأزق الانقطاعات المستمرة وضياع نحو 40% من الإنتاج بسبب الهدر والسرقات، لكن الواقع اصطدم بجدار الرفض الشعبي الواسع، فالمواطنون الذين أثقلت كواهلهم فواتير المولدات الأهلية، رأوا في الخصخصة مشروعاً آخر لتحميلهم فاتورة فشل الدولة، لا خطة إصلاحية تنهي معاناتهم.
وما يعزز المعارضة السياسية وحتى الشعبية لهذا الملف، هو تأكيد عضو مجلس محافظة واسط، رحمن دلفي، بأن المجلس ماضٍ في موقفه الرافض لخصخصة قطاع الكهرباء داخل المحافظة، وتشديده على أن القرار يستند إلى أسس قانونية واضحة، وأن الحكومة الاتحادية لا تملك الحق في معاقبة واسط على تمسكها بهذا الموقف.
وقال دلفي إن ملف الخصخصة أصبح "الشغل الشاغل" في واسط خلال الفترة الأخيرة، سواء على مستوى الشارع أو المؤسسات الرسمية، موضحاً أن الرفض “قاطع وشامل ويجمع الأوساط الشعبية والرسمية على حد سواء، في وقت حسم فيه مجلس المحافظة موقفه بشكل نهائي برفض المشروع".
وبيّن أن "قرار المجلس لا يقوم على الاعتبارات السياسية فحسب، بل يستند إلى المادة (115) من الدستور الاتحادي، التي تمنح الأولوية للحكومات المحلية في حال تعارض الصلاحيات المشتركة مع الحكومة الاتحادية"، مضيفاً أنه "بالتالي، فإن لقرار الرفض سنداً دستورياً صريحاً، ولا يمكن تجاوزه أو الطعن فيه بسهولة".
وانتقد دلفي الحكومة الاتحادية لعدم قدرتها حتى الآن على توفير كهرباء مستقرة على مدار الساعة للمواطنين، معتبراً أنه "لا يمكن فرض خصخصة الكهرباء والجباية الإلكترونية على الأهالي في ظل غياب أبسط مقومات الخدمة".
وتابع: "عندما نتمكن من تأمين جميع وسائل الراحة والالتزام بتجهيز الكهرباء بشكل كامل، يمكن عندها الحديث عن الخصخصة، أما في الوضع الحالي فهي مرفوضة تماماً".
وأشار عضو مجلس واسط إلى أن "السلطات المحلية في المحافظة، بشقيها التشريعي والتنفيذي، تواصل اتصالاتها ومخاطباتها الرسمية مع الحكومة الاتحادية لعرض موقفها وشرح مبرراته. ونفى أن يصل الخلاف إلى مستوى العقوبات أو الإجراءات العقابية"، مؤكداً أن "المحافظة تمتلك أوراق قوة، أبرزها وجود محطة الزبيدية الحرارية داخل حدودها، وهو ما يمنحها مساحة أوسع للتفاوض والضغط باتجاه إيجاد حلول واقعية ومنطقية للملف خلال الفترة المقبلة".
بذلك، يظل ملف خصخصة الكهرباء في واسط واحداً من أبرز نماذج المواجهة بين الحكومات المحلية والإدارة الاتحادية، وسط جدل متصاعد بين مؤيد يرى في الخصخصة مخرجاً من أزمة الطاقة، ورافض يعتبرها عبئاً إضافياً على كاهل المواطن.
وتتفاقم الأزمة مع ارتفاع درجات الحرارة في الصيف والزيادة السكانية والاستخدام المتزايد لأجهزة التكييف، وكل ذلك يصعب على شبكة الكهرباء مواكبة الاحتياج، حيث تحتاج البلاد إلى ما بين 50 إلى 55 ألف ميغاواط خلال ساعات الذروة في ذروة الصيف.
ولم يقف الأمر عند حدود المعارضة الشعبية والسياسية، بل برزت عقبات أعمق تتعلق بغياب البنية التحتية المهيأة لتطبيق أنظمة حديثة كالعدادات الذكية، فضلًا عن تضارب المصالح بين جهات نافذة، فشبكات المولدات الأهلية ومافيات استيراد الوقود وجماعات اقتصادية متنفذة، كلها عملت على إجهاض الخصخصة، إذ لم يكن من مصلحتها رؤية نظام يحدّ من أرباحها الطائلة ويعيد الانضباط إلى سوق الطاقة.
لا حلول قريبة
في سياق الموضوع، استبعد الخبير في مجال الطاقة والاقتصاد، نبيل المرسومي، إمكانية حل أزمة الكهرباء في العراق حتى خلال السنوات العشر المقبلة، مرجعاً ذلك إلى غياب الدولة الرشيدة وسيادة القانون، الأمر الذي أدى إلى تشتت القرار السياسي والإداري وتفاقم الأزمات في مختلف القطاعات، وعلى رأسها قطاع الكهرباء.
وقال المرسومي في حديث لـ”الجبال”، إن "المشكلة لا تكمن فقط في الجوانب الفنية أو التقنية، بل في طبيعة منظومة الإدارة الاقتصادية التي أثبتت إخفاقها، فضلًا عن تفشي الفساد المالي داخل مؤسسات الدولة، بما فيها وزارة الكهرباء، ما جعل الأزمة أكثر تعقيداً".
وأضاف أن "التبريرات التي قدمتها الوزارة بشأن الانقطاعات الأخيرة على أنها نتيجة "خلل فني" لا تبدو مقنعة أو منطقية، إذ تحولت أزمة الكهرباء، بحسب تعبيره، إلى "أزمة مركبة ومعقدة" تجاوزت حدود الأعطال العرضية، وأصبحت عصية على الحلول التقليدية".
بدوره، أرجع المهندس المتخصص في شؤون الطاقة والكهرباء خليفة المنهل حالة عدم الاستقرار المزمنة التي تعيشها منظومة الكهرباء في العراق إلى مجموعة من العوامل المتشابكة، في مقدمتها اتساع الفجوة بين حجم الطلب المتزايد على الطاقة وما يُنتج محلياً أو يُستورد من الخارج، الأمر الذي يجعل الشبكة عاجزة عن تلبية احتياجات المستهلكين.
وقال المنهل لـ"الجبال" إن "ضعف موثوقية خطوط النقل يمثل بدوره سبباً جوهرياً في تفاقم الأزمة، إذ إن جزءاً كبيراً من هذه الخطوط متهالك نتيجة قدمه، فيما يتعرض جزء آخر للانفصال المتكرر بسبب الأحمال الزائدة، ما يؤدي إلى سلسلة انقطاعات تمتد من خروج وحدات التوليد الكبيرة عن الخدمة إلى تعطل محطات إنتاج بكاملها".
وأضاف أن "هذا الوضع يتفاقم مع عدم التزام بعض المحافظات بالحصص المقررة لها من الطاقة، فضلًا عن تعرض الشبكة بين فترة وأخرى لأعمال تخريب تزيد من هشاشتها".
يذكر ان دراسة سابقة أجريت على قطاع الكهرباء أشارت إلى أن العراقيين أنفقوا ما يقرب من أربعة مليارات دولار على مولدات الطاقة الخاصة بهم في عام 2018 في حجم تجارة كبير يرتبط بشكل وثيق ببعض السياسيين وقادة الفصائل المنتشرة في العراق أو ما يٌطلق "مافيا المولدات".
كما ساهم انخفاض أسعار النفط العالمية في تعقيد الأمر، إذ أدى إلى تراجع إيرادات النفط، ما يعني تخصيص موارد مالية أقل إلى قطاع الكهرباء في ظل عجز هائل في الموازنة العراقية.
ويعد مشروع “خصخصة الكهرباء” من المشاريع التي بدأت بها حكومة رئيس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي (2014-2018)، وطُبّق على أحياء سكنية في العاصمة بغداد، وفي وقت سجّل نجاح الخصخصة في تلك المناطق بالمقارنة مع ما تقدمه "المولدات الأهلية" للمواطن، إلا أن المشروع واجه انتقادات سياسية وأخرى شعبية بذرائع مختلفة، حتى توقفت توسعته في بقية مناطق بغداد والمحافظات الأخرى.
ويعتبر بعض المختصين أن خصخصة الكهرباء قد تكون الحل النهائي لمعالجة أزمات الكهرباء في بغداد، فيما يرى آخرون أن هذه الخطوة قد تعيد إنتاج المشاكل نفسها بشكل مختلف، فالتجربة السابقة مع خصخصة القطاعات الأخرى لم تكن دوماً ناجحة، وقد تكون خصخصة الكهرباء مجالاً جديداً للتحديات، خاصة في ظل الوضع الاقتصادي الحالي.
صورة مغايرة تماماً في كوردستان
على الضفة الأخرى من العراق، قدم إقليم كوردستان صورة مغايرة تماماً، فالتجربة هناك لم تقتصر على تطبيق الخصخصة فحسب، حيث اعتمد الإقليم منذ سنوات على إشراك القطاع الخاص في إدارة وتوزيع الكهرباء، فتم ضبط الجباية، وتحديث البنية التحتية، وتثبيت العدادات الذكية في المنازل والمؤسسات، الأمر الذي انعكس استقراراً نسبياً في تجهيز المواطنين بالكهرباء مقارنة بما يعانيه أبناء الوسط والجنوب.
وبحسب مسؤولين، فإن أربيل تمكنت من استقطاب شركات محلية وأجنبية عملت على تطوير الشبكة وتنويع مصادر الطاقة، وهذا التفوق جعل مواطني الإقليم ينظرون إلى الكهرباء كخدمة مستقرة ومضمونة، بينما ظل مواطنو بقية العراق أسرى وعود لم تتحقق منذ عقدين.
المفارقة هنا تثير تساؤلًا جوهرياً: لماذا تمكن الإقليم من تحويل الخصخصة إلى قصة نجاح، بينما فشل المركز في تعميمها؟ الإجابة تتوزع بحسب مختصين بين "غياب الإرادة السياسية في بغداد، وهيمنة مافيات المصالح، وفقدان الثقة الشعبية بالدولة".