الإقصاء الممنهج للخصوم السياسيين.. الديمقراطية في العراق على المحك

الإقصاء الممنهج للخصوم السياسيين.. الديمقراطية في العراق على المحك محتجون عراقيون بساحة التحرير في بغداد

قرّرت المفوضية العليا للانتخابات استبعاد النائب الحالي سجاد سالم من الترشح للانتخابات القادمة المزمع اجراؤها في تشرين الثاني 2025. مبرّرة ذلك بأحكام المادة 7 من قانون انتخابات مجلس النواب، والمتضمنة أن يكون المرشّح "حسن السيرة والسمعة والسلوك" وفق تعبير المادة. يسمح التعبير الفضفاض وغير الواضح لهذه المادة باستخدامها كأداة للإقصاء الممنهج للخصوم السياسيين. إذ تتم معاقبة سجاد سالم على مواقفه الواضحة بالضد من هيئة الحشد الشعبي وقادة سياسيين في الإطار التنسيقي مثل قيس الخزعلي وفالح الفياض. وفي ظل عدم وجود أي حكم قضائي يدين سجاد بارتكاب جريمة من أي نوع، أو الانتماء لحزب البعث – الشروط الأساسية للاشتراك في الانتخابات – تم استخدام الجزئية المتعلقة بحسن السيرة والسلوك.

 

هذا الإقصاء ليس حدثاً معزولًا، بل جزء من استراتيجية أوسع تنمو في العراق. فبالتزامن مع تطويع البنود القانونية الفضفاضة لاستهداف نائب معارض، يتم استخدام ذريعة الأمن في إقليم كوردستان العراق لاعتقال شخصيات معارضة قبيل الانتخابات. الحملة الأخيرة التي شملت اعتقال رئيس حراك الجيل الجديد شاسوار عبد الواحد والرئيس المشترك السابق للاتحاد الوطني الكوردستاني لاهور شيخ جنكي تمهد لاستهداف شخصيّات أخرى مثل رئيس الجمهورية السابق برهم صالح. وترتبط ارتباطاً وثيقاً بما يحصل في العراق الاتحادي من تضييق. على الرغم من اختلاف الأدوات، إلّا أن الهدف هو إغلاق المجال الديموقراطي أمام المعارضين، وفرض هندسة مسبقة لنتائج الانتخابات القادمة.

 

الانتخابات كتعبير عن الغضب


تعمل الانتخابات كـ"صمّام أمان" يعبر من خلالها المواطنون الساخطون عن غضبهم من خلال صناديق الاقتراع بدلًا من الشارع. عندما يغلق هذا الصمام جراء الإقصاء من خلال معايير انتخابية فضفاضة وإجراءات أمنية منحازة يتراكم الضغط المجتمعي ويبحث عن مسارات أخرى للتنفيس، غالباً ما تكون عنفيّة.


في السياق العراقي، لم يكن الوصول لهذه النقطة – إقناع الشارع المحتج بالمشاركة بالانتخابات – أمراً سهلًا. إذ بعد القمع العنيف الذي شهدته الاحتجاجات التشرينيّة 2019 – 2020 سادت قطيعة شبه كاملة بين المجتمع والطبقة السياسية. انقسم الاحتجاج نفسه إلى تيارَين: الأول يدعو لـ"الإصلاح من الداخل" واستخدام الأدوات المتاحة دستوريًاً – الانتخابات والبرلمان – من أجل التغيير. والثاني يؤمن بأن الحل الوحيد يتمثّل بمقاطعة كاملة للنظام السياسي ولا خيار إلّا إسقاطه بالكامل.

 

لقد تطلّب حسم هذا الجدل لصالح تيار الإصلاح من الداخل تدخلًا استثنائيّاً من المؤسسة الدينية في النجف. التي قدمت ما يشبه "الصفقة" للنظام السياسي: قانون انتخابي جديد، مفوضية جديدة، وانتخابات مبكرة، مقابل منح الثقة مرة أخرى للعملية السياسية. هذه الصفقة منحت الشرعية لمسار المشاركة في الانتخابات، وانبثق على أثرها نواب مثل سجاد سالم. إقصاء سجاد سالم أكبر من شخصه، بل إعلان عن انهيار تلك الصفقة. ورسالة للجمهور أن الإصلاح من الداخل لم يعد خيارًاً فعّالًا.

 

القمع بديلًا للديموقراطية


عادةً ما تميل الأنظمة الاستبدادية لاستبدال الأدوات الديموقراطية بقدرة على ممارسة العنف تجاه المعارضين. السيناريو الذي بالإمكان أن يتطور إليه العراق في ظل تصاعد استراتيجية الإقصاء السياسي وتطويع مؤسسات الدولة لمعاقبة الخصوم. إلّا أن عراقاً بهذه الصيغة – إن حصل - سيكون عبئاً على قادته أنفسهم. في بلد تتعدد فيه مصادر السلاح وتتداخل فيه القوى الأمنية الرسمية مع فصائل وميليشيات مسلحة لها أجنداتها الخاصة، فإن "قرار القمع" لن يكون قرار مركزي ومسيطر عليه. ويعود ذلك إلى أن القمع المستدام ليس مجرد قرار سياسي، بل هو عملية معقدة ومكلفة تتطلب ولاءً مطلقاً وسلسلة قيادة موحدة، وهي شروط غائبة تماماً في عراق اليوم.

 

إن أي محاولة لفرض "قمع طويل الأمد" تحتاج إلى دعم خارجي شبه مطلق، سياسيًاً وماديًاً. وإذا كانت إيران قد وفرت غطاءً حاسماً للسلطة في العراق لقمع احتجاجات تشرين 2019، فإن قدرتها على تكرار هذا الدور اليوم أصبحت محل تشكيك كبير. فالجمهورية الإسلامية نفسها غارقة في أزماتها الداخلية وتحدياتها الاقتصادية، فضلًا عن تراجع نفوذها الإقليمي مقارنة بالسنوات الماضية. بالتالي، فإن خيار "القمع" ليس استراتيجية قابلة لتحقيق استقرار استبدادي، بل هو مقامرة عالية المخاطر قد تعجّل بتفكك المنظومة الحاكمة من الداخل.

 

فرصة أخيرة 


قد تراهن الطبقة السياسية الحاكمة على أن بإمكانها إدارة الأزمة مرة أخرى، ربما بتكرار سيناريو 2019 وانتظار تدخل ينقذها في اللحظة الأخيرة. إلّا أن فرصة مشابهة من قبل المؤسسة الدينية أمرٌ مستبعد، ناهيك عن إيران المنكفئة على جراحها. لم يعد هناك من يمنح الثقة لنظام أثبت إصراره على إغلاق كل منافذ التغيير السلمي.


إلّا أن الطريق الوحيد للحفاظ على ما تبقى من الدولة ومنع انزلاقها نحو العنف الفوضوي لا يمر عبر تراجعات تكتيكية مؤقتة، بل يتطلب تحولًا استراتيجياً يفتح الباب أمام منافسة سياسية حقيقية، تقوم على معايير عادلة ونزيهة تنطبق على الجميع.

 

أمام هذا الطريق المسدود الذي فرضته السلطة على نفسها وعلى البلاد، ينتقل عبء البحث عن مخرج من دوائر الحكم إلى خصومها. لكن هذا المخرج سيظل مستحيلاً إذا بقيت المعارضة نفسها أسيرة للانقسامات التي كرّستها المنظومة الحاكمة. 


إن مستقبل التغيير في العراق مرهون اليوم بولادة معارضة وطنية عابرة للهويات، تعيد تعريف الصراع الأساسي: ليس بين المركز والإقليم، أو بين الشمال والجنوب، بل بين جميع المواطنين ومنظومة المحاصصة والفساد التي تستنزفهم جميعاً.


وإن اختراق الحاجز السياسي والنفسي بين المعارض في السليمانية والمحتج في البصرة لم يعد ترفاً. بل أصبح اليوم الشرط الجوهري لأي تغيير حقيقي قادم.

الفضل أحمد باحث وكاتب يركز على الشؤون السياسية والتغيّرات الاجتماعية في وسط وجنوب العراق

نُشرت في الأربعاء 27 أغسطس 2025 11:30 ص

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.