في الشرق الأوسط وتحولاته السريعة ينام العراق وهو العملاق النفطي عاجزاً أن يحول عمقه الاقتصادي إلى نفوذ إقليمي، لا يفهم موقعه بدقة، مساحة بين محاور تُستعمل أكثر مما تُشارك فتصبح ممراً لتوازنات غيرها، وفاعل اقتصادي لمحيطها غير واضحة ولا تملك دوراً لنفسها بنفسها.
أكثر من عقدين تجاوزها النظام في العراق وقادته، لا ينتبهون إلا لمنافع لا ترتقي إلى ما هو أكبر من استحقاقات آنية بمواقع إدارية في هيكل الدولة، دولة مريضة أثقل عليها الاقتصاد الريعي الهش، والتدخلات الخارجية، والولاءات الحزبية، وكل ذلك يدار من طبقة سياسية معزولة عن ملفات شرق جديد، هاربة عن بناء هوية استراتيجية مستقلة لا تكون فيها تابعة أو رهينة للخارج.
والأسى الكبير هو أن واقع العراق الحالي دولة شبه مُهاجرة من الشرق الأوسط وتحولاته المسرعة، هجرة ناتجة عن اختيارات داخلية أكثر من كونها مفروضة من الخارج، ويمكن أن نفصل في واقعها كما هو:
أولاً: في الدور الإقليمي والدبلوماسي يغيب العراق عن الوساطات والتفاهمات الكبرى (مثل اتفاق إيران - أمريكا)، أو (سوريا - ايران) ولا يشارك في المبادرات الدبلوماسية النشطة كتنسيق تخفيف التوترات في المنطقة وترسيخ أمن البحر الأحمر، أو إعادة استقرار لبنان، أو إعادة تقييم ظروفه الخاصة التي منها ينطلق للمنطقة كشريك وليس مشترك.
ثانياً: في الاقتصاد الاقليمي لا اثر للعراق في المشاريع الكبرى، مثل الربط الخليجي، وممرات الطاقة، وسلاسل التوريد الذكية، متردداً أو لا يدري كيف يتخذ قرارات استراتيجية كالانفتاح الكامل على الواقع الجديد أو الاستثمار في الطاقة، معتمداً على النفط الذي ينخفض الاعتماد عليه من كل العالم مقابل تقدير الطاقة المتجددة التي تخفف انفعالات المناخ، وبسبب بيئته السياسية غير المستقرة بفعل الجماعات المسلحة الخارجة على القانون يبقى الشك الإقليمي والدولي واقعه وموقعه، فالدول تتحرك مع الحكومات لا الميليشيات، واي التحاق للعراق بالاقتصاد الاقليمي لن يكون التحاق تلقائي، بل هو مشروط بان يعيد تعريف نفسه كجغرافية قوية ومُنتجة وموثوقة.
ثالثاً: لا ينتمي العراق لتحالفات أمنية-أقليمية واضحة، لا هو ضمن منظومة الدفاع الخليجي ولا الحلف الإيراني ولا حتى أمريكا التي قلصت حضورها فيه وحددته بدور استشاري ودبلوماسي، وبسيطرة جهات غير حكومية على قراراته يتحول إلى بلد لا ينتظر الفرص من خلال سلطات موازية لمؤسسات الدولة تحركها مصالح أحزاب مسلحة بشكل اسرع من الدولة!
رابعاً: معظم زعماء العراق لا يقرأ المستقبل جيداً، وبدلاً من التفكير بمصالح الأجيال القادمة يجري التركيز على السلطة، والمال، والمناصب، فالمصالح الفئوية والطائفية والحزبية تبحر باغلب القوى السياسية بعيدا عن المشاريع الوطنية الشاملة وفق نظام سياسي لا يعتمد على المحاسبة الشعبية بل على التفاهمات بين الكتل!
كثير من الحكومات العراقية السابقة تحدثت عن "التغيير" و"الإصلاح" لكن أغلبها كان يرتكز على تهدئة الشارع أو امتصاص الصدمة الشعبية، وليس على إعادة بناء الدولة لتكون قادرة على التواجد في قلب تحولات المنطقة.
إن العالم لا يشاهد العراق كحالة خاصة، بل كموقع استراتيجي وإذا لم يتغير من الداخل ويصبح قادراً على مراجعة وتصحيح مساره امنياً واقتصادياً وسياسياً، فلن يُؤخذ بجدية في الترتيبات الإقليمية الكبرى.
خامساً: غياب الديمقراطية الجوهرية، فالانتخابات تجرى لكن لا تنتج تمثيلاً حقيقياً مع ارادة شعبية مقيدة بالمال السياسي والسلاح، وبسبب التزوير وهشاشة الادارة للانتخابات فقد المواطن الإيمان بجدوى صوته وصار يفضل أن يكون عازفا عن الاقتراع اما النتائج فتدار سياسيا ولا تصنع شعبياً.
وبكل وضوح؛ أن العراق الحالي هو رهينة بيد طبقة سياسية لا تمثله والقرار محتجز في قصورها ولا يصدر عن مؤسسات حرة أو ارادة وطنية وفي الغالب يصنع في عواصم خارجية، وبعلامات قشرية تصبح الدولة شبحاً وليس جسماً، فتوجد انتخابات ويغيب التداول الحقيقي للسلطة، وتوجد مؤسسات لكنها تدار من قبل أحزاب، ويوجد برلمان لكنه موجه من صالونات خارج اسواره، ويوجد قانون لكنه يُطبَّق على الضعفاء والفاسدون الكبار في مأمن، وتوجد حكومة لكنها تخاف من سلاح غيرها، ويوجد دستور لكنه ليس مصدر اعلى من القوى السياسية التي تفسره وفق رغباتها لا مقاصده.
هل الإصلاح ممكن؟ نعم، ولكي لا يكون معقداً فهو بحاجة إلى أن يعتمد على أجيال جديدة لا تستغني عن اصلاح عيوب النظام، أجيال تسأل دائماً عن الحقوق والخدمات لا عن الهويات والأيديولوجيات، وقادرة على ازعاج من في الحكم بالنقد والتعبئة، وتعتمد على التغيير كمشروع طويل لا كصفقة وقتية قصيرة عبر الاندماج في لعبة التمثيل النيابي، فالتغيير لا يبدأ من صناديق الاقتراع فقط، بل من تنظيم مشروع وطني شبابي نظيف حتى لو لم يشارك فورا في الانتخابات.
وإذا كانت القوى الشابة تنتظر الانتخابات لتُغير، فلن تُغير، لكن إن بدأت بالتنظيم، والوعي، والضغط، وطرح وسائل حقيقية للإصلاح الشامل عندها حتى الانتخابات ستصبح أداة بيدهم، لا بيد من يخطفها ويتحكم بها، ولا مفر للعراق من العالم سوى اليه بعد وقف التبعية لأي محور، والتموضع كساحة تُحترم ولا تُستخدم.