هناك حكاية واقعية لا أملّ من ترديدها؛ في صيف 2003 قام رجلٌ جنوبيّ عجوز بمراسيم زيارة الإمام الرضا في مدينة مشهد الايرانية مع مجموعة من رفاقه الكهول، وبعد أن انتهى من المراسيم عاد وصلّى ركعتي شكر، وحينما سأله رفاقه عن مغزى هذه الصلاة الإضافية ردّ عليهم؛ هاي على روح أمّ بوش.. لأنه لولا إبنها لما استطعت زيارة الإمام الرضا.
لم يكن بوش ملاكاً ولن يكون، وجلبت الحرب التي انتهت بإسقاط نظام صدّام حسين الديكتاتوري، الكثير من الويلات، واتخذت كل الأطراف العراقية، جماعات وأفراداً مواقف متباينة، كلٌ حسب مصالحه وتصوراته الخاصّة، ومدى استفادته أو تضرّره من إسقاط نظام صدّام. وهذا كلّه أمرٌ مفهوم وطبيعي.
كان الحدث تاريخياً ومزلزلاً، وربما بالحسابات الدقيقة، فإن كلّ الأحداث التي وصفت بأنها مزلزلة فيما بعد، ليس ابتداءً من ثورات الربيع العربي، واحتلال داعش لثلث العراق، وليس انتهاءً بسقوط نظام بشّار الأسد، كلّ هذه الأحداث لم تكن بثقل حدث إسقاط نظام صدّام حسين وتداعياته الإقليمية والمحليّة.
لقد جلب هذا الحدث وضعاً جديداً، وتاريخياً، للكورد في العراق، ومثّل نقلة مهمّة باتجاه مشروع بناء كيانهم السياسي الخاصّ، قياساً بالكورد في إيران وتركيا وسوريا.
كذلك هو كان فرصة تاريخية، غير مسبوقة بالمرّة، بالنسبة للنخب الشيعية العربية في العراق، لإعادة تنظيم المشهد السياسي في العراق بما يوازي ثقلهم الديمغرافي والاجتماعي.
وجلب الحدث تحديّاً صعباً للنخب السنيّة العربية في عدّة مستويات؛ حيث تراجعت للخلف تلك النخب التي لم تكن تنظر إلى نفسها إلا من خلال منظور وطني، ولا تعترف بالمحدّدات الطائفية، وتصدّرت إلى الأمام النخب التي أرتضت التعريف الطائفي، وخاضت صراعها في سبيل تمثيل عادل لمن تدّعي الدفاع عن مصالحهم.
كذلك كان الحدث، بما جلبه من ارتباك وفوضى لاحقة، سبباً في فتح صفحة جديدة من الاضطهاد من قبل المكوّنات العراقية الأصغر، من مسيحيين ومندائيين وإيزيديين وغيرهم، وقاد الى هجرات متواترة لم تنته حتى اليوم للأسف.
كان هناك خاسرون ورابحون من إسقاط نظام صدّام، وسنجد، في الحقيقة، منطق الربح والخسارة بقسوته الحادّة، حاضراً في كلّ الأحداث الاجتماعية والسياسية، ولا يمكن الالتفاف عليه إلا بالاحتواء وبعد النظر السياسي، وهو ما كان مفقوداً بعمق طوال العشرين سنة الماضية.
فلا معنى لانتصار طوائف وقوميات وهزيمة أخرى في بلد يفترض أن يكون مبنياً على أساس المواطنة. من يخسر هو من كان مؤيداً للديكتاتورية والاستبداد، ومن يربح هو من يتقبل النظام الديمقراطي ويعمل على إنجاحه. أياً كانت الخلفيات الطائفية والقومية لكلا الفريقين.
بالعودة الى منطق العجوز الذي صلّى ثواباً على روح "أم بوش"، فنرى أنه كان صاحب منطق سليم، أنه يشعر بالامتنان لهذا الطرف الذي خلّصه من نظام استبدادي كان يمنعه من ممارسة طقوسه الدينية.
وهذا المنطق السليم لم تحافظ عليه بوضوح وصلابة سوى النخب الكوردية في العراق، التي رأت في العلاقة مع أقوى دولة في العالم، رصيداً ستراتيجياً يحمي مصالحها، وهو المنطق نفسه الذي رسم العلاقة مع بريطانيا والاتحاد الاوربي وغيرهم من دول العالم المتقدّم.
اليوم تستفيد النخب الكوردية العراقية من رصيد 22 سنة في أدوار مؤثرة في ملفيّ كورد سوريا وتركيا، وغدوا وسيطاً موثوقاً للمفاوضات السريّة والعلنية لتنظيم وضع الكورد في المنطقة ما بعد طوفان 7 أكتوبر.
لقد سحقنا منطق التطرّف، وتقسيم العالم الى أبيض وأسود، والمبادئ المثالية الجامدة التي قد تصدق في حالة وتخفق في حالات أخرى كثيرة، والحسّ الثوري الذاهب باتجاه العماء وفقدان الرؤية، ما جعلنا نخسر الاستثمار في شبكة العلاقات الدولية، ونهدر زمناً ثميناً وأموالاً طائلة من دون أن نحقّق من خلالها رفاهية شعبنا ولا ضمان مستقبله.