موقع الكورد داخل منظومة القيم العالمية

6 قراءة دقيقة
موقع الكورد داخل منظومة القيم العالمية (تعبيرية)

مؤخراً بات الكورد رقماً مقروءاً على الصعيدين العالمي والمناطقي، في منطقة الشرق الأوسط، وذلك ليس فقط بسبب موقعهم الجيو سياسي وأهميتهم كمكون حاضر في أحداث المنطقة، بل بسبب اندماجهم القوي والطبيعي مع المنظومة القيمية في العصر الحديث.

 

فالتفكير السياسي والإيديولوجي والممارسة السياسية للنخبة السياسية الكوردية وحتى الشعبية، يتطابق مع الرؤى العالمية لإدارة الدولة والمجتمع في العصر الحاضر.

 

وحتى نكون أكثر وضوحاً لا بد لنا من تعريف أو تحديد فهمنا لما سميناه في هذا المقال (المنظومة القيمية العالمية) ماذا نقصد بالمنظومة القيمية للعالم؟

 

باختصار شديد فإننا  نقصد بالقيم العالمية الحديثة مجمل الأخلاقيات و الرؤى والقيم الجماعية التي تُشكّل سمات المجتمعات الحديثة، مثل قيم الحرية وحقوق الإنسان وتقبّل الآخر والسلام والديمقراطية والدولة المحايدة أو الدولة القومية والخ.. من القيم التي تُشكّل سمات النظام العالمي الجديد.

 

ولو أن كل هذه المفردات ربما تحتاج إلى تفسير وتحديد أدق وربما يختلف تفسيرها وتطبيقها من مجتمع إلى آخر، إلا أنه لا شكّ أن هذه المفردات هي التي تشكّل منظومة الحياة والمجتمع في العصر الحديث.

 

وهذه القيم هي القيم التي تستطيع أن توفّر بيئة اجتماعية وسياسية لائقة بحياة الأفراد والمكونات المختلفة داخل المجتمع، حيث يتكون المجتمع عادة من رؤى واتجاهات مختلفة ولابد من وجود منظومة قيمية تراعي هذه الاختلافات والرؤى المختلفة، سواء اختلافات سياسية أو دينية أو عرقية، كما ويَكفُل هذه القيم حرية الأفراد عن طريق سنّ القوانين العصرية.

 

ولا شكّ أن هذه القيم هي التي تصنع من الغرب والدول الأوروبية اليوم بشكل عام مثالاّ يُحتذى به، ومَلجأ يَلجأ إليه من يناشد الحرية و يحتاج الى ملاذ آمن، طبعاً مع وجود ثغرات ومشاكل وانتقادات لا يَسلم منها عادة أية تجربة بشرية.

 

أوروبا أو الغرب التي كانت قبل أقل من 100 عام أرضاً للصراعات وقبلها كانت مسرحاً للاضطهاد الديني والفكري ولم تكن بالشكل شبه المثالي الذي نتحدث عنه اليوم ولكن بفضل منظومة القيم التي أشرنا إليها تحوّلت إلى مكان يتعايش فيه الجميع، و يكفل الحريات الشخصية والسياسية، و أصبحت حاضنة لجميع الثقافات المختلفة، وكل ذلك بفضل تبنيها للقيم المشتركة التي نتحدث عنها في هذا المقال.

 

من هذا المنطلق فلو نظرنا إلى تجربتين كورديتين في منطقة الشرق الأوسط، إحداهما وليدة أحداث العشر سنوات الماضية في شمال شرق سوريا، والثانية هي تجربة أكثر من 30 سنة تقريباً في كوردستان العراق، فإن هاتين التجربتين السياسيتين في الشرق الأوسط يتمتعان بمثل تلك السمات والمواصفات التي سردتُها قبل قليل كمنظومة قيمية تشكلت من خلالها معظم "الدول الناجحة" -نسبيا- في العالم.

 

وأرى أن أية منظومة سياسية تريد أن تَكتب لها النجاح في المنطقة، يجب أن تتمتع بهذه المواصفات وتنخرط في المنظومة القيمية العالمية وإلا فإن مصيرها إلى الفشل، كما رأينا في تجربة "الدولة الإسلامية في العراق والشام" وقبلها تجربة الدولة القومية العربية التي تأسست ما بعد حقبة الاستعمار وأظهرت أحداث الربيع العربي في 2011 وما تلتها من أحداث فشلها.

 

فها هي تجربة اقليم كوردستان قد بُنيت منذ تأسيسها على أرضية ثابتة من قيم التعايش الديني والعرقي والتعددية السياسية والفكرية، فليس هناك أي إقصاء داخل هذه المنظومة، والكل له حق المشاركة والتعبير عن نفسه من حركات إسلامية سياسية وجماعات سلفية دينية إلى أحزاب ذات طابع علماني وحتى ماركسية، والأكثر من ذلك مشاركة جميع المكونات العرقية والدينية والمذهبية المختلفة في الحياة السياسية  وفتح المجال أمام جميع الديانات والمذاهب وحرية الأفراد فكرياً وسلوكياً.

 

وكل هذا أدى إلى مشاركة إقليم كوردستان كنتيجة طبيعية في مشروع الديانات الإبراهيمية التي ليس إلا مشروعاً سياسياً وثقافياً لترسيخ هذه القيم المشتركة بين جميع الأديان وشعوب العالم. (قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله).

 

ولو تركنا تجربة اقليم كوردستان جانباً وهو واقع ملموس يستطيع أي باحث أن يرى بأم عينه ويكشف مدى قرب أو بعد هذه التجربة عن منظومة القيم العالمية، فإن هناك تجربة أخرى للكورد في المنطقة هي أيضا أخذت موقعها الجيد داخل المنظومة القيمية العالمية.

 

وهذه التجربة هي تجربة (روج آفا) أو تجربة شمال شرق سوريا الذي قال عنها  الفنان السوري القدير دريد لحام قبل أيام: "شرق الفرات هو المكان الآمن الوحيد بسوريا، أرجوكم لا تخربوه!".

 

هذه الشهادة من الفنان الكبير دريد لحام لا تاتي جزافاً بل يعكس الواقع الملموس في تلك البقعة من سوريا الجديدة مقارنة بالأجزاء الأخرى التي حتى الآن يسيطر عليها جو من الضبابية وغير واضحة المعالم من حيث تبنيها لقيم الحرية الفردية واحترام المكونات والتعددية وإلى آخره من قيم التعايش والسلم الاجتماعي في العصر الحديث.

 

وعلى نفس المنوال، أشار أحد مستشاري الرئيس دونالد ترامب، إلى أن المناطق التي يسيطر عليها قوات (قسد) أي الكورد، هو المكان الوحيد الذي يستطيع جميع مكونات سوريا أن تعيش فيها بأمان وسلام. وذلك في تعقيب له على أحداث الساحل السوري و مناطق الدروز.

 

وأرى أن سوريا الجديدة إذا لم تندمج مع هذه المنظومة القيمية العالمية فإن مصيرها إلى زوال وهذا الاندماج يجب أن يكون طبيعياً و طوعياً لا تكتيكية وسياسية. وأن سوريا المتعددة بأديانها وأعراقها وثقافاتها المختلفة لن تُحكَم إلا في ظل المنظومة القيمية العالمية وعلى رأسها الديمقراطية وحقوق الإنسان واحترام الأقليات فمن دون هذه المظلة القيمية لن تكتب لسوريا الاستقرار و لن يكون هناك شيء اسمه سوريا جديدة.

 

 

عبدالله ريشاوي كاتب صحفي

نُشرت في الاثنين 12 مايو 2025 06:25 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.