في مشهد يعكس حجم التحدي الذي يواجه العراق في إدارة الملف المالي، أقدمت الحكومة على خطوة غير تقليدية، استنفرت فيها كل الأدوات الممكنة لتأمين أحد أعقد الالتزامات وأكثرها حساسية وهي "رواتب الموظفين"، وهذه المرة لم يكن الحل عبر القروض أو الاعتماد المؤقت على احتياطيات الطوارئ، بل عبر باب ظل لسنوات مغلقاً خلف جدران الإجراءات المالية "الأمانات الضريبية".
وبهذه الخطوة، فتحت الحكومة خزائن مبالغ محجوزة لصالح جهات متعددة، وجعلتها مصدر تمويل مباشر لصرف الرواتب، في لحظة كان فيها الشارع يترقب والموظفون يعيشون تحت وطأة القلق، بمشهد غير مألوف في السياسة المالية العراقية، ويعكس حجم الضغط الذي تتعرض له الحكومة، كما رأى اقتصاديون.
وتحوّلت الأمانات من أرصدة خاملة إلى أداة إنقاذ فعّالة، لتضخ الحياة مجدداً في حركة السوق، وتعيد الثقة ولو مؤقتاً إلى دورة الاقتصاد الوطني، وفقاً للتصريحات الحكومية، حيث أن بعض الجهات الرسمية اعتبرتها خطوة تتجاوز مجرد قرار مالي، بل "انعطافه مفصلية في طريقة التعاطي مع الأزمات".
وتداولت وسائل إعلام عراقية، وثيقة حكومية تكشف عن موافقة مجلس الوزراء في جلسته الاعتيادية الـ15 المنعقدة في 15/ 4/ 2025، على تخويل وزيرة المالية صلاحية سحب مبلغ الأمانات الضريبية التي لم يمض عليها خمس سنوات، البالغ 3 تريليونات و45 مليار و7 ملايين و500 ألف و252 ديناراً، لتمويل وتسديد رواتب شهر نيسان والأشهر اللاحقة المودعة في حساب وزارة المالية لدى البنك المركزي العراقي (70019).
وكانت قضية نور زهير قد أثارت جدلاً واسعاً خلال الفترة الماضية، والتي تعتبر أول من ركز على ملف الأموال التي توجد في هيئة الضرائب المعروفة بـ "الامانات الضريبية" حيث كانت الفضيحة في وقتها بعد الكشف عن مبالغ ضخمة مودعة باسمه ضمن حساب الأمانات الضريبية، وسط اتهامات باستخدام هذه الآلية للتهرب الضريبي أو تبييض الأموال.
ماهي "الأمانات الضريبية"؟
"الأمانات الضريبية تمثل حقوقاً مالية للشركات والأفراد، أودعت في حساب خاص لدى الهيئة العامة للضرائب لغرض تسوية حساباتهم الضريبية لاحقاً، وأن جزءاً من هذه الأموال يتحول إلى إيراد ضريبي فعلي، في حين تبقى أجزاء أخرى دون مراجعة من المكلفين، أو يعاد صرفها لمستحقيها"، هذا ما أوضحه الخبير المالي والاقتصادي نبيل جبار التميمي، بحديث خاص لمنصة "الجبال".
ويقول التميمي، إن هذه الأمانات تتراكم بشكل دوري في حساب خاص يعرف بـ"حساب الأمانات الضريبية"، وهو ما دفع وزارة المالية العراقية إلى إصدار تعليمات تتيح اعتبار هذه الأمانات "إيراداً نهائياً للدولة" في حال مرور فترة تقادم مدتها خمس سنوات، وذلك استناداً إلى دليل الإجراءات المحاسبية الموحد الصادر عن الوزارة.
ووفقاً لحديث التميمي، فإن هذه الخطوة تعني أن معظم الأموال المودعة في حساب الأمانات الضريبية ستؤول ملكيتها إلى الدولة العراقية، الأمر الذي يعكس، من وجهة نظره، مؤشراً على تعثر القدرة المالية للحكومة، وسط ضغوط الإنفاق المتزايد على الموازنات العامة.
ويتابع التميمي حديثه قائلاً إن "لجوء الحكومة إلى الاستفادة من هذه الأموال لا يعفيها من مسؤولية تحصيل الإيرادات الأخرى التي تجنيها الوزارات والهيئات المختلفة، التي لا يزال مصير الكثير منها مجهولاً منذ سنوات"، مبيناً أن "حساب الأمانات الضريبية ظل بعيداً عن الأنظار طيلة سنوات، إلى أن كشفت فضيحة سرقة القرن النقاب عن حجم الأموال الضخمة المتراكمة سنوياً في هذا الحساب، وهو ما سلّط الضوء على أهمية مراجعة هذا الملف وفرض رقابة مالية ومحاسبية صارمة عليه".
وبالتزامن مع الضجة الإعلامية التي رافقت انتشار الوثيقة الحكومية، خرجت بعض الأنباء التي تفيد بأن الحكومة قامت بسحب أرصدة مصرفي الرافدين والرشيد، الأمر الذي أجبر وزارة المالية لإصدار بيان تقول فيه إن "الأموال التي جرى سحبها من مصرفي الرافدين والرشيد الحكوميين لا تمثل ودائع المواطنين أو الأرصدة التأمينية الخاصة بالمصارف، بل تعود إلى الحسابات السيادية للوزارة، وكانت محفوظة كأداة تشغيلية مؤقتة، وأعيد نقلها بحسب التعليمات المالية والإدارية لتخصيصها ضمن الموازنة العامة".
"التمويل الجسري".. خطوة حكومية وسط تذبذب النفط
في هذا الشأن، يقول مستشار رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، مظهر محمد صالح، إن "فلسفة الاقتراض الحكومي في المالية العامة ليست وليدة اللحظة، بل تعود جذورها إلى القرن التاسع عشر في عهد الملكة فيكتوريا، حيث عُرفت بما يُسمى بالتمويل الجسري".
وتقوم هذه الفلسفة، وفقاً لكلام صالح، على مبدأ أن الالتزامات بالنفقات لا تتطابق بالضرورة مع توقيتات تحقق الإيرادات، سواء كانت ضريبية أو غيرها.
وفي حديث لمنصة "الجبال"، يضيف صالح، أن "هذه الفجوة التمويلية تعاني منها الموازنات العامة، لا سيما في البلدان الريعية مثل العراق، حيث تشكل الإيرادات النفطية نحو 90% من إجمالي الإنفاق العام، ما يجعل المالية العامة شديدة التأثر بتقلبات أسعار النفط في الأسواق العالمية".
ويتابع صالح قائلاً: "على الرغم من أن متوسط سعر برميل النفط المصدر في الربع الأول من عام 2025 بلغ 75 دولاراً، وهو أعلى من السعر المعتمد في الموازنة العامة البالغ 70 دولاراً، إلا أن المؤشرات الحالية تُنذر بدخول سوق النفط في دورة هبوط. وعزا ذلك إلى التزامن بين رفع منظمة (أوبك+)، القيود المفروضة على حصص الإنتاج من جهة، وتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وهما أكبر اقتصادين في العالم، ما أدى إلى توقعات بانكماش النمو الاقتصادي العالمي وانحدار أسعار النفط إلى 63 دولاراً للبرميل في الأسابيع القليلة الماضية"، مبيناً أن "هذا الانحدار في الأسعار يؤثر بشكل نسبي على التدفقات النقدية للموازنة العامة".
ويشير صالح، إلى أن الموازنة الاتحادية الصادرة بموجب القانون رقم 13 لسنة 2023 كانت قد تحوّطت لعجز افتراضي قد يصل إلى 64 تريليون دينار، وفي مثل هذه الظروف، تلجأ الحكومة إلى تطبيق مبدأ "الحيز المالي"، الذي يتيح استخدام الأدوات التمويلية المتاحة لتغطية النفقات الثابتة، وعلى رأسها الرواتب والأجور والمعاشات التقاعدية والرعاية الاجتماعية.
كما يؤكد المستشار الحكومي، استمرار تنفيذ مشاريع البنية التحتية والخدمية المدرجة ضمن البرنامج الحكومي دون توقف، حتى في حال اقتضت الحاجة إلى اعتماد التمويل الجسري عبر إصدار حوالات الخزينة أو السندات الحكومية، وهو ما يتطلب تنسيقاً فعالاً بين السياستين المالية والنقدية.
ويختتم صالح تصريحه بالتأكيد على أن هذا النهج التمويلي يُعد ضرورياً للحفاظ على الاستقرار المالي والاقتصادي، ويُنفذ ضمن ضوابط تضمن فاعليته واستدامته.
وفي الشهر الماضي، توقع صندوق النقد الدولي، انكماش الاقتصاد العراقي بواقع 1.5% خلال العام 2025، على أن يعود للنمو في 2026 بمعدل 1.4%، على خلفية تراجع أسعار النفط وتوقعات بتباطؤ الطلب، فيما أشار إلى أن العراق يحتاج إلى سعر نفط يبلغ 92 دولاراً للبرميل لتغطية الإنفاق الحكومي العام الجاري، فيما يجري تداول عقود خام برنت المستقبلية قرب مستوى 65 دولاراً.
ووفقاً للتصريحات الحكومية والنيابية فإن إيرادات موازنة 2024، بلغت 144 تريليون و336 مليار دينار، في حين بلغت النفقات 210 تريليونات و936 مليار دينار، اذ بلغ العجز 63 تريليوناً و599 مليار دينار، إلا أن الحكومة باتت تعاني من سيولة في الدينار المحلي على خلفية الأزمات والقرارات التي رافقت قضية "الدولار".
وفي العام 2020، اتخذت الحكومة العراقية قراراً بتغيير سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار الأميركي، حيث تم تعديل السعر من 1182 ديناراً للدولار الواحد إلى 1450 ديناراً للدولار الواحد.
وأثار هذا القرار استياء شعبياً واسعاً، خاصة بعد أن شهدت أسعار المواد الغذائية وجميع السلع في الأسواق ارتفاعاً ملحوظاً، كما ثبت هذا التغيير في الموازنة الاتحادية التي أقرها مجلس النواب العراقي في 31 آذار 2021.
آلية سحب الأمانات وتحويلها لإيرادات
وفي خضم هذه الأزمة، قدمت وزيرة المالية، طيف سامي، توضيحاً مفصلاً بشأن آلية سحب الأمانات الضريبية وتحويلها إلى إيرادات نهائية للخزينة العامة، مؤكدة أن الإجراء يندرج ضمن صلاحيات الوزارة وقرارات مجلس الوزراء لتعظيم الموارد المالية.
وقالت سامي في تصريح لوكالة الانباء الرسمية، وتابعته منصة "الجبال"، إن "المبالغ المدفوعة من المكلفين كأمانات ضريبية تُودع مؤقتاً في حساب خاص لدى البنك المركزي، لحين إتمام التحاسب الضريبي"، موضحة أن "تلك الأمانات تُحوَّل إلى إيرادات نهائية في حال طابقت مبلغ الضريبة المستحقة، أو يُعاد الفارق للمكلف إن زاد ما دفعه عن الاستحقاق".
وتشير الوزيرة، إلى أن أغلب المكلفين لا يراجعون الهيئة العامة للضرائب لإجراء التحاسب، ما يفتح المجال للتهرب الضريبي، مشيرة إلى أن لدى الوزارة قوائم بأسماء وقيم المبالغ المستحقة من الشركات والأفراد.
تحذير من أزمة تلوح بالأفق
ودخل البرلمان خط الأزمة، حيث كشفت اللجنة المالية النيابية، عن نيتها لاستضافة مدير عام هيئة الضرائب للاستفسار بشأن "استفادة" الحكومة من السيولة الموجودة في الأمانات الضريبية ومدى قانونية وشرعية هذا التصرف، مؤكدة أن الدولة بإمكانها الاستفادة من هذه السيولة لدى الضرائب، لكن يجب التأكد بأن لا يكون هناك مساس بحقوق المواطنين سواء كانوا تجاراً او مقاولين لدى الأمانات الضريبية.
في المقابل، يحذر خبراء اقتصاد عراقيون، عبر استطلاع سريع أجرته منصة "الجبال"، من التداعيات الخطيرة بشأن لجوء الحكومة إلى استخدام مبالغ الأمانات الضريبية المودعة لدى وزارة المالية لتغطية رواتب الموظفين، معتبرين ذلك دليلاً على عمق أزمة السيولة التي تعاني منها الدولة ومؤشراً واضحاً على فشل السياسة المالية في إيجاد حلول استراتيجية ومستدامة بعيداً عن الحلول المؤقتة.
ووفقاً لهؤلاء الخبراء، فإن الاعتماد على أموال الأمانات الضريبية لسد العجز في الرواتب هو تصرف يتنافى مع القواعد المحاسبية والإدارية للدولة، ويعد تجاوزاً خطيراً على المال العام، مؤكدين أن هذه الأموال ليست جزءاً من الإيرادات، وإنما هي حقوق مؤجلة للمكلفين تُعاد إليهم أو تُحتسب لاحقاً في التسويات الضريبية، ولا يجوز التصرف بها كموارد قابلة للإنفاق.
ويتابع الخبراء أن "ما يجري يعكس عدم قدرة الحكومة على امتصاص تداعيات التغييرات النقدية التي فرضها البنك الفيدرالي الأميركي بشأن مراقبة التحويلات بالدولار، وغياب المرونة في إدارة السياسة النقدية والمالية، ما جعل الدولة أمام خيارات ضيقة دفعتها إلى اللجوء لهذا الحل المثير للقلق".
وطالب الخبراء الحكومة ووزارة المالية بـ"مصارحة الرأي العام حول حجم الأزمة وأسبابها، ووضع خطة واضحة قصيرة ومتوسطة الأجل لمعالجة الاختلالات المالية، تبدأ بإصلاح هيكلية الإنفاق وتوسيع قاعدة الإيرادات غير النفطية، بدل اللجوء إلى سحب أموال غير مخصصة للإنفاق أصلاً".
وخلال الأشهر الأخيرة الماضية، شهدت أسعار النفط العالمية حالة من التذبذب الحاد، ما أثار تساؤلات واسعة حول مستقبل أسواق الطاقة وتأثير ذلك على الاقتصاد العالمي، اذ تأرجحت الأسعار بين ارتفاعات قياسية وانخفاضات مفاجئة مدفوعة بمجموعة متنوعة من العوامل الجيوسياسية والاقتصادية.
ويعتمد الاقتصاد في العراق بشكل كامل تقريباً بعد العام 2003 على النفط، حيث يكوّن 95% من إجمالي الدخل من الدولار، ما يجعله "متأرجحاً" كونه يتأثر في أسعار النفط العالمية.