حادثتان خلال الأسبوع الماضي أعادت إلى الاذهان من جديد السؤال عن "عنف السلطة"، أو الاستخدام غير القانوني للعنف، وانتهاك القانون من قبل القوّة المخوّلة بتطبيق القانون.
الحادثة الأولى؛ مقتل المهندس خالد، جرّاء تعرّضه للضرب داخل الحجز، بعد اعتقاله في ظروف ملتبسة، وتورّط شخصيات ذات صفة أمنية، بعملية تعذيبه وتلفيق التهم له.
والحادثة الثانية؛ هي المواجهة غير المبرّرة من قبل الأجهزة الأمنية الرسمية، كما في كلّ تظاهرات تحدث في بغداد أو المحافظات، والتي أدّت الى سقوط جرحى من بين متظاهري سلك التعليم والتربية، المطالبين بزيادة المرتّبات وتحسين ظروفهم المعيشية.
في كلا الحادثتين أعلنت الحكومة فتحها لتحقيق للوقوف على حقيقة ما جرى، ولكن أحداً لا يتوقّع نتيجة إيجابية من هذا التحقيق، استناداً الى وقائع سابقة كثيرة، فالتحقيق الذي يريد معرفة الحقيقة ومحاسبة مرتكبي المخالفات، لن يتحوّل الى لحظة فاصلة، ما لم يتم بعدها تعديل السياقات التي أنتجت المخالفات.
فإن اتهم طبيب باستعمال أدوات ملوّثة في معالجة مريض، فلا يكفي محاسبة الطبيب، وإنما البحث عن أسباب التلوّث، ثم محاولة التعرّف على السياق الأوسع؛ فهل هذا المستشفى وحده هو الملوّث أم هي حالة عامّة.
بالنسبة لاستعمال العنف المفرط من قبل الأجهزة الأمنية العراقية، فهي حالة عامة، ومحاسبة ضابط هنا وشرطي هناك لا تنهي المشكلة، لأنها متجذّرة وعميقة، ولها أسباب متعلقّة بمدى قوّة المؤسستين الأمنية والقضائية، بالاضافة الى أسباب اجتماعية ونفسية.
اعتدنا الدفاع عن الأجهزة الأمنية الرسمية بازاء انفلات المليشيات والمجموعات المسلّحة التابعة لأحزاب، أو حتى سلاح العشائر والسلاح الشخصي المنتشر داخل المجتمع. فلا حلّ لدولة محترمة وآمنة من دون جهاز أمني رسمي يحتكر العنف واستعمال السلاح، تحت مظلّة القانون والدستور.
ولكن جزءاً من المشكلة العميقة التي تمنع فرض القانون بشكل حاسم ونهائي، أن الأعراف التي تحكم المؤسسات الأمنية ما زالت تنظر الى السلاح والحقّ باستعمال العنف على أنه امتياز يخوّل صاحبه استعماله حسب مزاجه. وهي مشكلة موروثة من زمن النظام السابق، ولدى العراقيين العديد من القصص، في ذلك الزمن وزمننا الحالي، عن التعسّف باستعمال القوّة مع المواطنين من قبل الأجهزة الأمنية، والذي يتدرّج من الكلام الحاد أو الألفاظ النابية أو التهديد، وقد ينتهي الى استعمال مفرط للقوّة، كما حصل في قمع التظاهرات على مدى السنوات الماضية.
لا توجد بالطبع أجهزة أمنية مثالية في كلّ العالم، وتنقل لنا القصص والأفلام السينمائية مشاهد من الاستعمال السيء للصلاحيات أو الفساد داخل الأجهزة الأمنية، ولكن هامش هذه الحوادث يكون بسيطاً، وقوّة القانون التي بيد الشرطة هي فوق الشرطة أيضاً.
جزء من المشكلة يتعلّق بصورة موظّف الخدمة العامّة، التي انتجتها الدولة الاشتراكية في العراق، وطريقة تعامله مع المواطن، الذي يكون في موقع الاستجداء من صاحب سلطة وتحت رحمته. لا أن يكون موظف الخدمة العامة متواضعاً ومهذباً ومحترماً مع المواطنين. لأنه يرى نفسه صورة عن السلطة، والسلطة كانت قمعية استبدادية. على خلاف صورة موظف الخدمة العامة في البلدان الديمقراطية ذات المنهج الاقتصادي الحرّ، حيث يعرف الموظف أنه يتلقى راتبه من الضرائب التي يدفعها هؤلاء المواطنين.
في مدينة بإحدى الدول الاسكندنافية، قبل سنوات، تظاهر مجموعة من المواطنين احتجاجاً على "إظهار السلاح" من قبل الشرطة في الشوارع والساحات العامة، واعتبروا أن بروز السلاح بهذه الطريقة يمثّل "عنفاً رمزياً" تجاه المواطنين، الأمر الذي أضطر الشرطة الى اصدار تعليمات بإخفاء السلاح تحت الملابس.
لا نحلم بالوصول الى هذه الصورة المثالية، ولكن كما قال السيّد المسيح "إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ"، وإذا كنّا نريد محاصرة السلاح المنفلت وتغوّل المليشيات في المجتمع، فإلى من نلجأ إن كانت الأجهزة الأمنية الرسمية تمارس العنف ضد المجتمع من دون خوف من قانون أو محاسبة؟!.