كان إعلان زعيم التيار الوطني الشيعي مقتدى الصدر، عدم المشاركة بالانتخابات، موقفاً مثيراً، نسف الكثير من التوقعات بل والتعويل السياسي على عودته إلى العملية السياسية، فلا شيء يخيف القوى السياسية الحاكمة في العراق أكثر من بقاء طرف ما خارج اللعبة، لأنه سيكون أكثر قدرة على إثارة المتاعب من كونه بداخلها، خصوصاً إذا كانت القوة الخارجة عن المشاركة، هي التيار الصدري الذي يمثل أقوى تيار شعبي موحد القيادة.
في بيانه المفاجئ، قال الصدر بشكل قاطع: "ليكن في علم الجميع، ما دام الفساد موجوداً فلن أشارك في أية عملية انتخابية عرجاء، لا هم لها إلا المصالح الطائفية والحزبية بعيدة كل البعد عن معاناة الشعب"، مؤكداً "تعويله على طاعة قواعده الشعبية ومحبيه من الصدريين في التيار الوطني الشيعي في الاستجابة له وعدم المشاركة والترشيح في الانتخابات"، فيما وصف العراق بأنه "يعيش أنفاسه الأخيرة ولا فائدة ترجى من مشاركة الفاسدين والتبعيين".
جاء إعلان الصدر استثنائياً بالرغم من أنه "ليس سابقة من نوعها" وذلك لعدة أسباب، من بينها أنه جاء مخالفاً للتوقعات والمؤشرات التي كانت تشير بقوة إلى عودة الصدر من بينها تغيير اسم التيار الصدري إلى التيار الوطني الشيعي، ومن ثم حثّ الصدريين على تحديث بطاقاتهم الانتخابية، فضلاً عن الاجتماع الأخير مع أعضاء الكتلة الصدرية المستقيلة وأعضاء الكتل السابقة مثل الأحرار وسائرون، التي شاركت في الدورات الانتخابية السابقة عن التيار الصدري.
الأمر الآخر الذي جعل موقف الصدر استثنائياً وشديد الأهمية، أنه لم يعلن مقاطعة الانتخابات أو عدم الترشيح فيها فحسب، بل حثّ جميع أعضاء التيار الصدري بعدم المشاركة في الانتخابات أو التصويت لأحد، وبالرغم من تضارب التقديرات حول عدد أنصار الصدر، والتي تشير إلى حوالي 2 إلى 3 ملايين شخص، إلا أن الاعتماد على عدد المصوتين في آخر انتخابات عام 2021 للتيار الصدري، سيعني أن 4% من الناخبين في العراق لن يشاركوا إطلاقا في الانتخابات المقبلة.
بلغ عدد مصوتي التيار الصدري في انتخابات 2021 أكثر من 850 ألف مصوّت، من أصل أكثر من 22 مليون ناخب يحق له التصويت، بالمقابل يبلغ عدد الناخبين خلال الانتخابات المقبلة حوالي 25 مليون ناخب، ما يعني أن هناك مليون ناخب صدري لن يشارك في الانتخابات المقبلة على الأقل.
موقف سابق.. المقاطعة "عهد مع الله"
انشغل الجميع بإعلان الصدر مقاطعة الانتخابات بصفته موقفاً جديداً، لكن في الحقيقة، هذا الموقف متخذ ومعلن منذ منتصف 2022، خلال استقبال الصدر لأعضاء الكتلة الصدرية بعد استقالتهم من البرلمان.
في حينها، قال الصدر بصريح العبارة: "أود أن اخبركم شيئاً واحداً، أني قررت الانسحاب من العملية السياسية كي لا أشترك مع الفاسدين بأي صورة من الصور لا في الدنيا ولا في الآخرة".
بل وأطلق الصدر عهداً ثقيلاً عندما قال: "هذا عهد أمام الله وعهد معكم ومع شعبي لن أشارك في الانتخابات المقبلة بوجود الفاسدين إلا إذا فرّج الله وأزيح الفاسدين وكل من نهب العراق وسرقه وأباح الدماء".
قراءتان.. رسالة إزاحة أم إعلان يأس؟
الربط المتزامن الذي يكرره الصدر بين مشاركته ومقاطعته، مع وجود وعدم وجود "الفاسدين" في العملية السياسية، يقود إلى قراءة القرار الأخير للصدر باتجاهين، الأول، هو أن الصدر قرر المقاطعة تماماً لأنه وصل إلى قناعة أن قادة وتيارات العملية السياسية الحالية باقون في الانتخابات المقبلة، ولن يكون هناك قرار ذاتي ولا خارجي بإزاحتهم تماماً، بعد أشهر من التسريبات والترجيحات والتقارير عن إمكانية حدوث تغيير كبير في العملية السياسية بالعراق بمؤثر خارجي.
لذلك، فإن اعلان الصدر مقاطعة الانتخابات تماماً، قد يكون ناجماً من وضوح المشهد بعدم وجود ما قد يهدد العملية السياسية وشخوصها الكلاسيكيين واستمرارهم.
أما القراءة الأخرى، فتبدو أنها رسالة مسبقة من الصدر إلى القوى السياسية الأخرى، لأن "تصلح شأنها بنفسها" وتقرر الابتعاد والاعتزال عن العملية السياسية والانكفاء وإزاحة نفسها بنفسها، وهو شرط إذا تحقق سيعيد الصدر إلى العملية السياسية من جديد، لكن يبقى الخلاف حول من هم الفاسدين وما معيار وسقف الصدر في عملية الإزاحة التي يريدها وهل تشمل جميع الزعماء والقادة السياسيين أم جزء منهم وبأسماء محددة؟.
من غير المعروف ما إذا كان هذا السؤال يجيب عنه الموقف السابق للصدر خلال مشروع تشكيل "حكومة الأغلبية"، حيث أنه وافق حينها على أن يتحالف مع زعيم تحالف الفتح هادي العامري من الإطار التنسيقي والانضمام إلى مشروع الأغلبية، لكنه كان يرفض انضمام نوري المالكي وقيس الخزعلي إلى المشروع، ومن غير المعروف ما إذا كان الصدر سيكتفي بإزاحة المالكي والخزعلي وعدم مشاركتهم بالانتخابات كشرط لعودته، أم أن المعايير والقياسات اختلفت هذه المرة خصوصاً مع المؤشرات الدولية على العديد من القيادات والأحزاب والتيارات السياسية.
وعموماً، فإن "التغيير بالانتخابات" واختفاء وجوه عن الانتخابات المقبلة، ليس "بدعة"، بل تحدث عنها الكثير من السياسيين في خضم التوقعات عن شكل التغيير المرتقب في النظام السياسي تماشياً مع الشرق الأوسط الجديد، حيث توقع كثيرون أن يتم استبعاد بل واختفاء تيارات ووجوه وزعماء عن الانتخابات المقبلة كواحدة من وسائل عملية التغيير المتوقعة.
انطلاقا من هذه الاحاديث، واشتراطات الصدر، من المتوقع أن يتم منح بعض الوجوه السياسية كـ"كبش فداء" لشروط الصدر لغرض عودته، ليس إرضاءً له فحسب، بل إرضاءً للمتطلبات الإقليمية الجديدة انسجاماً مع "الشرق الأوسط الجديد"، لكن هذه الوجوه ستكون من الزعامات حصراً، انسجاماً مع ثقل الحدث المتمثل بشروط الصدر والمتطلبات الإقليمية.