إيران والعراق.. خسارة رهان العنف

5 قراءة دقيقة
إيران والعراق.. خسارة رهان العنف احتجاجات عراقية

الاستثمار في الاستبداد يؤدي إلى خسارة

كانت واحدة من علامات التغيير الملفتة في عراق ما بعد 2003 هو انهيار الجدار السميك بين العراق وإيران، ومنه أن الناس، في الأشهر الأولى ما بعد سقوط نظام صدام، صارت تذهب لزيارة الأماكن المقدّسة في إيران باستخدام بطاقة الهوية فحسب، ثم في وقت لاحق كانت تُمنح الفيزا بتسهيلات سريعة وبختم على ورقة منفصلة وليس على الجواز. عاد المهجّرون من الكرد الفيلييين إلى بلدهم، وأعيد الاعتبار في التغطيات الإعلامية وفي تصريحات المثقفين والنخب للحضور الفارسي السابق في الحياة العراقية ما قبل صعود البعث، فالعلامات الثقافية والاجتماعية الفارسية كانت حاضرة في التنويعات العراقية على مدى قرون، وليس أقلّها الحضور الكثيف لطلّاب العلوم الدينية في النجف، والذين منهم من ارتقى حتى وصل إلى رتبة المرجع الديني الأعلى.

كان أبسط إنسان في الشارع يعرف أن إيران ستكون حاضرة في الساحة العراقية، وأن تأثيرها سيكون موجوداً، من خلال الأحزاب التي كانت مقيمة في إيران، أو من خلال التقليد الديني لمرجعية الولي الفقيه. وفي كلّ الأحوال لا ينكر أحدُ المصالح الحيوية لإيران في العراق، فأن يكون العراق صديقاً بعد عقود طويلة من العداوة هو، بكلّ تأكيد، مكسب كبير لإيران، بالإضافة إلى المصالح الاقتصادية، فالعراق كان في طور الانفتاح على العالم في الاستيراد بعد عقد ونصف تقريباً من العقوبات الدولية الخانقة، ليغدو سوقاً مغرية للبضائع الإيرانية المختلفة، بالإضافة إلى أهمية السياحة الدينية، فأهمّ المقدسات الشيعية في العالم هي في العراق.

توقّع بعض المثقفين انفتاحاً في التواصل الثقافي والفني بين العراق وإيران، وأن يكون هناك حضور في العراق للنخب الثقافية والإبداعية الإيرانية، فلا أحد يشكّ بالتفوّق الفني والإبداعي الإيراني في مختلف المجالات وأهمها السينما والموسيقى والفنون الشعبية. ولكن هذا للأسف لم يحدث.

تصرّف النظام في إيران مع (العراق الجديد) على أنه تهديد وجودي على أكثر من صعيد، فنجاح العراقيين الشيعة في إدارة نظام ديمقراطي يبطل ضمنياً شرعية أي فرضية سياسية أخرى يمكن أن يعمل عليها الشيعة، وأبرزها العمل السياسي تحت مظلّة ولاية الفقيه. كما أن نيل جميع المكونات الاجتماعية لحقوقها المدنية والسياسية يبرز التفاوت الموجود لذات المكونات داخل إيران.

إن بروز الصوت الكردي، على سبيل المثال، وشراكته مع بقية المكونات العراقية على قدم سواء، لا كمواطنين من الدرجة الثانية، قد ينعش آمال الكرد في الدول المجاورة، ومنها إيران. لذا فإن هذا الكردي الذي يتصرّف بحرية وعلى وفق دستور وقوانين ناظمة لن يكون أقل من مصدر قلق.

وعلى الرغم من أن النخب السياسية العراقية بمختلف خلفياتها كانت تراعي النفوذ الإيراني في العراق، إلا أن إيران كانت تدرك بأن هذه النخب ليست خاضعة لها، وتتصرّف باستقلالية كبيرة، وقد تتحوّل إلى أداة بيد أميركا ضد إيران. كانت هذه الهواجس حاضرة في السجال الإيراني، في السنوات الأولى ما بعد 2003، ما بين رؤيتين داخل السلطة الإيرانية للتعامل مع العراق، واحدة تريد التعامل معه كدولة وأخرى تريده ساحة لمواجهة أميركا ومشروعها، لتميل الكفّة في النهاية إلى الطرف الراديكالي المتشدّد.

تساءل بعض المعلّقين الإيرانيين عشية تظاهرات أيلول/ سبتمبر 2018 التي انطلقت من البصرة؛ لماذا يهتف الشباب العراقي، وأغلبهم صغيرٌ بالعمر: "إيران برّة برّة!".

كان المناخ المناهض لإيران بين صفوف الشباب الشيعة تحديداً أمراً صادماً ومحبطاً للإيرانيين، وتجلّى بصورة أكبر في تظاهرات تشرين الأول/ أكتوبر 2019 التي عمّت الجنوب وبغداد، ليبدو حينها أن الاستثمار الناعم على مدى عقد ونصف في أكثر من مجال داخل الساحة الشيعية العراقية لم يؤت ثماره. فات هؤلاء المراقبين الإيرانيين أن الشيعة العراقيين يمكن أن يستعيدوا هويتهم الوطنية، وينطلقوا منها في تقييم مواقف الدول الأخرى وتأثير نفوذها على المصالح العراقية الوطنية.

إن علاقة مخرّبة ومتوتّرة بين العراق وإيران لا تخدم البلدين الجارين، فهما مرتبطان بمصالح التاريخ والجغرافيا والدين والمذهب، ويمكن لإيران أن تضمن مصالحها في العراق من خلال القوى الناعمة، الثقافية والاقتصادية، ومن خلال احترام الأعراف الدبلوماسية بين الدول، لا بإضعاف سلطة الدولة في العراق لصالح المليشيات الموالية لإيران، ولا بتحويل العراق إلى ساحة يصول ويجول فيها الحرس الثوري والمخابرات الإيرانية، وكأنه محافظة إيرانية وليست دولة مستقلة ذات سيادة.

إن هذا السلوك السيء يعرفه كلّ عراقي يجلس الآن في بيته صامتاً خوفاً من إرهاب المليشيات، وعرفه في وقت سابق الشباب المتظاهرون الذين تعرضوا للتخوين والاتهام بالعمالة والقتل والتشريد لمجرد أنهم وطنيون. ولا يمكن لاستمرار السلوك السيء أن ينتج صورة أخرى في المستقبل، فالاستثمار في الاستبداد والعنف والإرهاب لا يُنتج أشياء جيّدة وهو طريقٌ يؤدي إلى خسارة حتمية في نهاية المطاف.

أحمد سعداوي كاتب وروائي

نُشرت في الخميس 18 يوليو 2024 11:02 ص

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية

© 2024 الجبال. كل الحقوق محفوظة.