بينما يخضع النظام المصرفي العراقي عموماً، ومصرف الرافدين خصوصاً لعملية مراجعة بإشراف مؤسسات مالية أميركية استعداداً للوصول إلى مرحلة الهيكلة الكاملة تصحيحاً لأخطاء 20 عاماً من "التخلف المصرفي"، من غير المعلوم ما إذا كان مصرف الرافدين يعيش "آخر أيام معيشة الظل"، فغالباً ما تكون "الأيام الأخيرة" هو الوقت بدل الضائع الذي تستغل فيه كل ثغرة ممكنة قبل إحكام الرقابة التامة، وما سرقة القرن إلا نموذج حي على فكرة استغلال "الوقت بدل الضائع".
فكرة استغلال "الوقت بدل الضائع" في سرقة القرن، تتمثل بقيام عملية سرقة 3.7 تريليون دينار عراقي خلال فترة استمرت لعام واحد، قبل أسابيع قليلة من سقوط إمكانية المطالبة بالأمانات الضريبية من قبل الشركات، حيث أن الإمانات الضريبية التابعة لشركات معينة هي عبارة عن ودائع يمكن للشركات سحبها قبل مرور 5 سنوات عليها، وبعد مرور هذه الفترة يسقط حق مطالبة الشركات وتذهب الأموال إلى خزينة الدولة، لكن المتهمين بسرقة القرن استغلوا الوقت "بدل الضائع" في آخر عام لسحب الاموال قبل أن يسقط حق المطالبة بها وذهابها إلى خزينة الدولة.
ولعل ليس من المصادفة أن هذه السرقة الكبرى، وأحد أبرز أيقونات الفساد والسرقة في العراق خلال العقدين الماضيين، تمت من خلال مصرف الرافدين، المثال الأبرز على تخلف النظام المصرفي نتيجة سنوات من العقوبات، وعدم تحديث الأنظمة المصرفية، لكن مصرف الرافدين يعيش الآن عملية "هيكلة" تحت إشراف مؤسسة إرنست اند يونغ الأميركية، وبدأت العملية منذ أيلول 2024 ولا تزال مستمرة حتى الآن، وانطلاقًا من فكرة الوقت "بدل الضائع" فعملية الاستفادة القصوى من ثغرات المصرف قبل إغلاق ملفه نهائياً، تبقى قائمة، خصوصاً مع تركيز النائب الجمهوري في الكونغرس الأميركي جو ويلسون، على مصرف الرافدين الذي اعتبر أن بداية الضغط الأقصى على إيران، تبدأ من الضغط على العراق ومصرف الرافدين تحديداً، والذي وصفه بأنه بوابة لحصول إيران على 500 إلى 600 مليون دولار شهرياً.
كانت الدولارات المهربة طوال العقدين الماضيين تتم عبر الحوالات المصرفية لغرض الاستيراد، لكن منذ مطلع 2023 من المفترض أنه بدأ العمل بتحويل الدولار إلى الخارج عبر المنصة الالكترونية التي تخضع لرقابة مزدوجة من قبل البنك المركزي العراقي والخزانة الأميركية، وبعد عامين، أي مع مطلع عام 2025، توقف العمل في المنصة الالكترونية، وأصبح التمويل من خلال عدد من المصارف الذي لا يتجاوز الـ6 مصارف معظمها ذات أسهم عربية وأجنبية وليست عراقية، وذلك عبر تعزيز البنك المركزي أرصدة هذه المصارف بالدولار في حساباتها المفتوحة في مصارف مراسلة أميركية حصراً، وتقوم هذه المصارف الأميركية بدور الرقابة للجهات التي يرسل إليها الدولار.
وفقاً لذلك، أصبحت إمكانية تمويل إيران بالدولارات محصورة فقط عبر دولار المسافرين، والذي يبلغ معدله حوالي 20 مليون دولار شهرياً، حيث يشارك مصرف الرافدين بمزاد الدولار النقدي أو ما يعرف بدولار المسافرين، وعموماً؛ تبلغ مبيعات البنك المركزي من الدولار النقدي حوالي 250 إلى 300 مليون دولار شهرياً، ما يعني أن دولار المسافرين ربما يكون جزءاً من تمويل إيران لكنه ليس الوسيلة الوحيدة، فحديث جو ويلسون عن 500 إلى 600 مليون دولار شهرياً، ربما يقصد بها تمويل التجارة الإيرانية إلى العراق والبالغة حوالي 6 مليارات دولار سنوياً، باستثناء مستحقات الغاز والكهرباء، فالرافدين وشركات الصرافة والسوق الموازية، جميعها توفر الدولار للتجار الإيرانيين أو العراقيين أو كل من يمتلك رؤوس الأموال الكبيرة بالدينار، والذين يقومون بشراء الدولار لإرساله إلى إيران أو إلى أية منافذ صرف أخرى لا يمولها البنك المركزي بالدولار بالطرق الشرعية.
وتتضارب التصورات عن كيفية معاقبة مصرف الرافدين، وما إذا كانت العقوبات ستقتصر على تجميد أصوله في الخارج أو منعه من التعامل بالدولار، وإذا حدث هذا الأمر، فستكون أول عقوبة من نوعها على مصرف حكومي عراقي، فجميع العقوبات التي طالت 32 مصرفاً من أصل 72 مصرفاً في العراق، هي مصارف أهلية خاصة.
ويوجد في العراق 8 مصارف حكومية، يعد مصرف الرافدين ثالث أكبر مصرف عراقي بناء على رأس ماله، حيث يبلغ رأس ماله 238 مليار دينار، بعد كل من المصرف العراقي للتجارة والذي يبلغ رأس ماله أكثر من 3.5 تريليون دينار، والمصرف الصناعي الذي يبلغ رأس ماله أكثر من 850 مليار دينار، وعموماً تستحوذ المصارف الحكومية على أكثر من 80% من حجم الودائع في المصارف مع 20% فقط لصالح المصارف الأهلية الخاصة.
ويمتلك مصرف الرافدين فروعاً في الاردن ومصر ولبنان والإمارات والبحرين، بوصفه المصرف المحلي الحكومي الوحيد الذي يمتلك فروعاً في الخارج، ما يعكس حجم مصرف الرافدين بوصفه عماد القطاع المصرفي العراقي، كما يمتلك مصرف الرافدين 189 فرعاً من أصل 891 فرعاً لمختلف المصارف في العراق، أي أنه الأكثر امتلاكاً للأفرع داخل العراق ما يجعله الأعلى انتشاراً بين المصارف في عموم البلاد.
كانت العقوبات الأميركية عموماً على المصارف في العراق تتلخص بمنعها من الدولار، وبجزء أقل تجميد أصولها الموجودة في الولايات المتحدة الأميركية ومنع الشركات الأميركية من التعامل معها، وبغض النظر عن نوع وحجم العقوبات المحتملة على مصرف الرافدين، فإنها ستتسبب بإرباك كبير على مختلف الاصعدة، ابتداء من كونها العقوبات الأولى على مصرف حكومي وتعيد إلى الأذهان العقوبات التي طالت المصارف العراقية وعلى رأسها الرافدين عام 1990 نتيجة غزو العراق للكويت.
يتعامل مصرف الرافدين مع 3 ملايين و150 ألف بطاقة مصرفية "ماستر كارد"، بين موظفين وبطاقات مرتبطة بحسابات مصرفية، وهذا النوع من البطاقات قابل لسحب الدولار من خلال الصرافات الآلية في خارج العراق، كما يتعامل مع أكثر من مليوني بطاقة كي كارد محلية الاستخدام لصرف الرواتب لفئات الحماية الاجتماعية والحشد الشعبي والتقاعد العامة.
وعموماً، تحولت البطاقات المصرفية "المساتر كارد" إلى بوابة لتهريب الدولار بعد أن تم فرض سياسة المنصة الالكترونية، حيث بدأ مهربو الدولار يستخرجون عشرات أو مئات البطاقات بأسماء مختلفة للحصول على الدولار لأغراض السفر من قبل المصارف بينها مصرف الرافدين، وملئها بحصة المسافر من الدولار والبالغة 2500 دولار للفرد، ثم يتم تهريب هذه البطاقات إلى الخارج لسحب الدولار من الصرافات الآلية في خارج العراق، ومن ثم لا يتم انفاق هذه المبالغ بل تحويلها عبر مكاتب تحويل غير رسمية إلى العراق ليتم استلامها بعملة الدولار، ومن ثم استخدامها في العمليات المشبوهة وتهريبها كعملة صعبة إلى إيران أو تمويل التجارة معها عبر هذه الحيلة الطويلة.
وبعد 3 أعوام من استخدام هذه الحيلة، أدرك مصرف الرافدين مؤخراً ضرورة معالجة هذه القصة، مع بدء المطالبات الأميركية بمعاقبة مصرف الرافدين ووضعه تحت الأضواء والأنظار وبدء تحرك بعض الجهات البرلمانية للتحقق منه، ليقوم مصرف الرافدين بأشعار زبائنه من حاملي بطاقات الماستر كارد والفيزا، بتزويده بجوازات سفر لضمان استمرار استخدام هذه البطاقات في الخارج لغرض الدفع الالكتروني والسحب النقدي، وهي عملية واضحة تهدف للتضييق على العملية الطويلة لسحب الدولار من الخارج عبر البطاقات وإعادة تحويله إلى العراق في عملية احتيال عابرة للحدود.
وتبقى عملية العقوبات الأكثر خطورة التي قد تفرضها واشنطن على العراق، هو تجميد حساب البنك المركزي العراقي ووزارة المالية في وزارة الخزانة الأميركية، ومنع تصرف العراق بإيراداته النفطية التي تعد العمود الفقري لبقاء العراق، وتجميد الأموال العراقية والأصول، يعني انهيار مباشر للعملة العراقية.