تحولات الطقس الشيعي

5 قراءة دقيقة
تحولات الطقس الشيعي

لربما من أبرز مميزات الطقس الشيعي في العراق أنه أولاً: شعبي، ثانياً: جماهيري، ثالثاً: متجدّد، وكان لكل الأطراف العراقية خارج الطقس مواقف متباينة، حيث اتخذت المرجعية الرسمية العليا للشيعة في النجف الأشرف موقفاً متحفّظاً ضد المبالغات والممارسات التي تؤذي النفس، أو استثمار الطقس لإثارة النعرات الطائفية. ونظرت الى استعادته بعد العام 2003 على أنه اعلان عن الهوية، وحقُّ من حقوق المواطن في ممارسة شعائره الدينية.

 

بينما نظرت مرجعيات أخرى الى الطقس على أنه إعلان مفرط عن الهوية، لا يتجسّد إلا بإعلان الاختلاف و(البراءة) من الآخر المغاير مذهبياً، بل والتعدّي على رموزه.

 

نظرت الدولة العراقية الحديثة ما بعد 1920 بقلق إلى الطقوس الشيعية، فحاولت الحدّ من غلواها، وحصلت عدّة احتكاكات خلال العهد الملكي، وكانت السلطة في ذلك الوقت تخشى أن تؤدي هذه الطقوس إلى انقسامات مذهبية داخل المجتمع العراقي، في الوقت الذي كانت تفكّر فيه، مع البدايات الأولى لتشكيل الدولة والهوية الوطنية العراقية، بما يعزّز اللحمة والترابط الاجتماعي ما بين مكونات وأطياف العراق.

 

لكن كل محاولات النظام الملكي لم تصل الى حد الصِدام والاشتباك، ثم في العهد القصير لعبد الكريم قاسم، كانت الطقوس الشيعية تتحرّك بحرية ومن دون قيود، حتى جاء نظام البعث، وبدأت محاولات التضييق الجديّة على الطقس الشيعي، لأسباب سياسيّة، حيث كان حزب الدعوة المعارض حينذاك يستثمر الطقوس باعتبارها تعبيراً سياسياً مناهضاً لنظام البعث.

 

اللحظة الفاصلة كانت في الزيارة الأربعينية عام 1977، حين حاولت السلطات منع طقس "المشّاية" في زيارة الأربعين، وحين رفض المشاركون في الطقس التفرّق، حصل صدام أدى الى اعتقال المئات، وكان من بين أبرزهم الراحل محمد باقر الحكيم. وحُكم لاحقاً على العديد من المعتقلين بالإعدام.

 

تراجعت الطقوس الشيعية في حكم نظام صدّام إلى حدود الاختفاء التام. وكان أبناء جيلي من الأحياء الشيعية في بغداد، ممن عاشوا طفولتهم أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، لا يكاد أحدهم أن يعرف شيئاً عن الطقوس الشيعية. واحتفظ من تلك الفترة بصورة بارزة، ربما تكون وحيدة، لجدّتي من أمّي، وهي تطبخ الهريسة في يوم عاشوراء، ونساعدها على توزيع الصحون على الجيران، من دون أن أفهم دلالة هذه الممارسة التي واظبت عليها جدّتي لسنوات عديدة، ومن دون أن أعرف أنها تجازف وتخاطر بإغضاب الرفاق البعثيين في المنطقة.

 

قلت إن من مزايا الطقس أنه شعبي؛ بمعنى أنه لا يخرج من بطون الكتب الدينية المدرسية، وإنما من الفعالية الاجتماعية، وفي الشعبي هناك ما يتعارض مع الرسمي، أو النصّي، أو يتجاوز حدوده من دون معارضة. ويحفل بالمبالغة. كما أنه لا يكون في نهاية المطاف دينياً بحتاً، وانما هو يخلط الديني مع الاجتماعي والحياتي.

 

وقلت إنه جماهيري، وأقصد أنه يحدث مع الجموع البشرية المتكاثرة، ولا يستطيع فردٌ واحد أن يقوم به. وهذه الجماهيرية هي التي كانت تقلق الأنظمة السياسية المتعاقبة. فاجتماع مئات من الناس في مكان واحد، قد يحوّل هذه الجموع الى قوّة بشرية هائلة تثير الاضطراب أو القلق، فيما لو اتفقوا جميعاً على اتخاذ فعل واحد، جيّد أو سيء.

 

وقلت إنه متجّدد؛ بمعنى أننا نجد مع كلّ عقد ولادة لتفاصيل جديدة تضاف على الطقس، وقد شهدنا، على سبيل المثال، في العقد الأخير وانتهاءً الى وقتنا الحاضر تنامي ظاهرة طقس "الشور"، الذي يشبه أغاني الراب بإيقاعه المتسارع، وهو بتحليلي الشخصي إعلان عن تغيّر المزاج الشيعي، خصوصاً عند الأجيال الشابّة، من التفجّع والميلودراما الناتجة عن سنوات الاضطهاد والقهر، الى الحسّ الاحتفالي، المناسب لحالة الاسترخاء الشيعي اليوم في ممارسة العبادات والطقوس.

 

التحدّي الأبرز اليوم أمام السلطات في تعاملها مع الطقس الشيعي هو في قضيّتين أساسيّتين؛ الأولى؛ هي التنظيم، وكيف يمكن أن يشارك شخصٌ ما في الطقس الشيعي من دون أن تتعطّل حياة ومصالح شخصٍ آخر.

 

والقضية الثانية؛ هي استثمار المتطرّفين لأجواء الطقس لبثّ الكراهية الطائفية تجاه الآخرين، وشتم رموزهم الدينية، وهذا يحدث للأسف في كلّ مناسبة، وترصده كاميرات الناس وينشر على مواقع التواصل، وتكتفي السلطات الحكومية أزاءه بالصمت المطبق.

أحمد سعداوي كاتب وروائي

نُشرت في الجمعة 31 يناير 2025 04:30 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.