لا تُعد فوضى ومتاهة البيانات والأرقام في العراق حالةً جديدة، بل سِمة دائمة في مختلف القطاعات، فالبيانات لا تتوفر بشكل شفاف وتفصيلي ومحدّث، بل ممكن أن يخرج مسؤول في وزارة الداخلية أو التربية أو التجارة ليطلق رقماً ما عن أي ملف، ثم يعود ليطلق رقماً مغايراً بعد فترة دون تقديم تفسير لهذا التغيير.
لكن لا توجد متاهة أرقام أكثر تعقيداً من أرقام مفوضية الانتخابات في العراق، ولعل جدل احتساب نسبة المشاركة والمقاطعة في الانتخابات، أبرز دلائل هذه المتاهة، فالعراقيون يتلقون ارقاماً مختلفة عن نسبة المشاركة مرة من المفوضية ومرة أخرى من المنظمات والباحثين، الذين يصفون النسبة المعلنة من المفوضية بأنها "غير صحيحة أو كاذبة"، لكن الأمر وراءه اختلاف في طريقة تعريف "من هو الناخب؟" وكيف تتم احتساب النسبة.
وفي قصة مثل الانتخابات، لا يوجد شيء أكثر أهمية من الأرقام، وبعد أن أعلنت مفوضية الانتخابات مؤخراً أن عدد الناخبين للانتخابات النيابية المقبلة يبلغ 21 مليوناً و400 ألف ناخب (مستلم وغير مستلم لبطاقته)، يقفز إلى الأذهان تصريح سابق لمفوضية الانتخابات يعود إلى قبل 6 أشهر من الآن، وتحديداً في شهر آذار/ مارس الماضي، عندما قالت المفوضية إن عدد من يحق لهم التصويت في الانتخابات المقبلة يبلغ أكثر من 29 مليون شخص، ما يجعل الإعلان الأخير عن 21.4 مليون ناخب فقط، إعلاناً يستدعي الوقوف والتمعن، فهناك قرابة 8 ملايين ناخب "اختفوا فجأة".
ليست المرة الأولى.. 3 ملايين "مختفٍ" في انتخابات 2021
في انتخابات 2021 وقبل أشهر من موعد الاقتراع، كانت المفوضية تتحدث عن 25 مليون شخص يحق لهم التصويت، لكن في وثائق المفوضية بعد انتهاء الانتخابات، اتضح ان عدد الناخبين يبلغ 22 مليون ناخب فقط، أي ان هناك 3 ملايين ناخب لم يحتسبوا، ومن أصل 22 مليون ناخب، ادلى 9 ملايين ناخب فقط بأصواتهم، ما يجعل نسبة المشاركة تبلغ اكثر من 40%، وهذه النسبة احتسبت على أساس عدد الناخبين 22 مليوناً وليس الـ25 مليوناً الذين يحق لهم التصويت.
والاختلاف بهذا، هو وجود حوالي 3 ملايين شخص لم يستلموا بطاقاتهم للتصويت، لذلك فإن ليس كل من يحق له التصويت يحتسب كناخب، بل فقط من استلم بطاقته البايومترية، وبهذا تم استبعاد 3 ملايين شخص ولم يحتسبوا كناخبين.
كيف أصبح عدد من يحق لهم التصويت 29 مليوناً؟
بعد 4 سنوات من اجراء انتخابات 2021، التي كان عدد من "يحق لهم التصويت" فيها يبلغ 25 مليوناً، اصبح هناك 4 مواليد قد بلغوا سن التصويت أي 18 عاماً واكثر، وهم مواليد 2004 وحتى 2007.
وهذه المواليد يبلغ عددهم حوالي 4 ملايين شخص بواقع مليون مولود جديد كل عام، اذاً، 4 ملايين شخص جديد مع 25 مليون شخص من 2021، اصبح مجموع من يحق لهم التصويت أكثر من 29 مليون شخصاً، مع وجود حالات وفاة قليلة لا تتجاوز الـ180 ألف وفاة سنوياً، وهذا ما دفع مفوضية الانتخابات في آذار الماضي لإعلان عدد من يحق لهم التصويت يبلغ 29 مليون شخص.
"اختفاء نحو 8 ملايين ناخب"
قبل انتخابات تشرين الأول/أكتوبر 2021، بأيام، قالت المفوضية إن 30% من الذين يحق لهم التصويت لم يحدثوا بياناتهم، لكن سيمسح لهم التصويت باستخدام البطاقة الالكترونية "قصيرة الأمد"، وهذه النسبة من إجمالي الـ25 مليون شخص يحق له التصويت، تعني أن أكثر من 7.5 مليون شخص لا يمتلك بطاقة بايومترية، بل يمتلك بطاقات الكترونية، إذن من يمتلك البطاقات البايومترية يبلغون فقط 17.5 مليون شخص، أي هناك 17.5 مليون بطاقة بايومترية فقط.
ولكن في هذه الانتخابات لعام 2025 تم الغاء حق التصويت للبطاقات قصيرة الأمد، لذلك فإن 17.5 مليون ناخب فقط، من الانتخابات السابقة يحق لهم التصويت.
واعتقدت المفوضية أنه سيضاف لهذا الرقم (7.5 مليون ممن يمتلكون بطاقات قصيرة بعد أن يذهبوا ليحدثوا بطاقاتهم، بالإضافة إلى 4 ملايين من المواليد الجديدة الذين سيذهبوا ليحدثوا بطاقاتهم)، ليكون مجموع هذين الشريحتين 11.5 مليون ناخب جديد ببطاقات بايومترية، سيضافون إلى الـ17.5 مليون ناخب ببطاقة بايومترية منذ 2021، أي المجموع أكثر من 29 مليون شخص.
لكن الذي حصل هو، أن 17.5 مليون ناخب محدث سابق منذ 2021، أضيف إليهم حوالي 4 ملايين ناخب جديد فقط قاموا بتحديث بطاقاتهم ليكون مجموعهم النهائي الآن 21.5 مليون ناخب يحق له التصويت.
هذا يعني من أصل 11.5 مليون شخص كانت المفوضية تعول عليهم وتنتظرهم ليحدثوا بطاقاتهم، فقط 4 ملايين منهم حدثوا بطاقاتهم أي بنسبة 34% وبهذه الطريقة اختفى حوالي 8 ملايين ناخب من قائمة الناخبين.
الإشارة الأكثر أهمية، هي أن هؤلاء الـ21.5 مليون ناخب يمتلك بطاقة بايومترية، ليس كلهم استلموا بطاقاتهم، فهناك 3.5 مليون منهم لم يستلموا بطاقاتهم بعد بحسبما أكدت المتحدثة باسم المفوضية جمانة غلاي لـ"الجبال"، هذا يعني أنه في حال لم يستلم هؤلاء بطاقاتهم البايومترية لغاية موعد الانتخابات، فإنهم أيضاً سيستبعدون من سجل الناخبين، ويصبح عدد الناخبين المحسوبين يبلغ 18 مليون ناخب فقط.
نسبة المشاركة.. ستكون مرتفعة حتى لو انخفض عدد الناخبين
في الانتخابات السابقة 2021، كان عدد الناخبين المحسوبين 22 مليون ناخب، صوت منهم أكثر من 9 ملايين ناخب، لذلك أصبحت نسبة المشاركة أكثر من 40%، لكن في هذه الانتخابات إذا انخفض عدد الناخبين المحسوبين مع تقييد أصحاب البطاقات قصيرة الأمد، من المتوقع أن ينخفض عدد المشاركين أيضاً، خصوصاً مع مقاطعة التيار الصدري الذي يبلغ عدد ناخبيهم حوالي مليون شخص، وحتى إذا بلغ عدد المشتركين 9 ملايين شخص مثل انتخابات 2021، فإن نسبة المشاركة ستبدو مرتفعة، فتصويت 9 ملايين من أصل 18 مليون "ناخب محسوب" يعني أن نسبة المشاركة ستكون 50%، بل إذا صوت 7.5 مليون ناخب فقط، ستكون نسبة المشاركة أكثر من 40% ومساوية لانتخابات 2021، بالرغم من أن عدد الناخبين انخفضوا من 9 ملايين مشارك إلى 7.5 مليون مشارك.