"أبلغ اليوم 35 عاماً، اعتدت ومذ سنين عمري العاشرة، أن أرى وجهه كل أسبوع. يبلغني والدي أن طقس العراق المتقلب لا يجب أن يمنعه لذة شرب الشاي في الشابندر ورؤية الحاج محمد وهو يستقبل زبائنه وكأنهم ضيوفه الأبديين، لكنها الحياة، وككل شيء يرحل، رحل، وترك خلفه الكثير من الذكريات، الدموع والضحكات".
رحيل آخر الثقافة
مثل آلاف، تودع نادية البكر، مع مدينتها بغداد، صاحب المقهى الأشهر في العراق، مقهى الشابندر، محمد الخشالي، الذي ترك مقهاه والدنيا بعد عمل ما يقارب 65 عاماً وسط الشاي ونقاشات المثقفين الحادة.
"الجلوس هنا يشبه الجلوس في كتاب تاريخ"
في عام 1917، تحوّل المبنى المشيد من الطوب والجص إلى مقهى للمرة الأولى في بغداد. وكان المكان يضم مطبعة التاجر عبد المجيد الشابندر. وفي عام 1963، تولى الخشالي زمام إدارة المكان الذي أصبح مقهى الشابندر في شارع المتنبي. اتخذ قراراً بحظر جميع الألعاب، بما في ذلك أوراق اللعب والدومينو لإنها تشتت الزبائن وتجعله مكان عشوائياً حسب قوله.
رغم أن هذه الخطوة أثارت استغراب بعض الزبائن، إلا أنه في حديثه عن القرار وفي إحدى الحوارات معه قال: "سيكون هذا المكان ملتقىً لأهل الثقافة فقط." وبالفعل، أصبح كذلك.
المقهى يُشكل محطة يومية لهؤلاء الذين يجدون فيه بيئة فكرية وثقافية خصبة. وبالنسبة لنادية، كان شارع المتنبي جزءاً مهما من طفولتها، فقد أصبح تقليداً عائلياً، "كل يوم جمعة كان والدي يصطحبني. كنا نشتري ما نحتاجه، ثم نتوجّه إلى مقهى الشابندر حيث كان والدي يجتمع مع أصدقائه ويتحدثون في مختلف المواضيع. نشرب الليمون الحامض واستمع إلى نقاشاتهم.. كان المكان يخلق لنا ذكريات لا تُنسى.. وفي نهاية اليوم، كان والدي يأخذنا إلى ضفاف نهر دجلة، حيث كنا نشتري الخبز العراقي لإطعام النوارس تحديداً في الشتاء"، تقول البكر، وتؤكد بحديثها لمنصة "الجبال" أن رحيل الخشالي يشبه رحيل جزء كبير من ذاكرة المدينة وتاريخها.
سنوات من العراق المعاصر
عاصر هذا الرجل مع مقهاه العشرات من السنين. منذ الحكم البريطاني وصولاً إلى العراق المعاصر، شهد مقهى الشابندر نضوج الأمة العراقية وتحولاتها الهائلة، مروراً بحروبها المتعددة وانتقال شعبها من مرحلة لأخرى. منها سقوط النظام الملكي والتحوّل إلى الجمهورية، إلى عقود هيمنة صدام حسين والحرب الطويلة مع إيران، تلتها حرب الكويت، ثم غزو الولايات المتحدة وما أعقب ذلك من فوضى دموية. ظل المقهى شاهداً على هذه التقلبات التاريخية. وعلى الرغم من قساوة تلك الفترات، خاصة عام 2007 الذي كان من أكثر الأعوام دموية في تاريخ العراق، لم ينجُ صاحب المقهى من تداعيات تلك الأحداث الأليمة، بل عاش فاجعة مؤلمة في قلب مقهاه، في 5 مارس/ آذار 2007، ضربت سيارة مفخخة شارع المتنبي، مما أسفر عن دمار كبير ومقتل وإصابة أكثر من 100 شخص. فقد الخشالي في هذا الهجوم أربعة من أبنائه وحفيده.
أصر الحاج بعد سنتين على إعادة بناء المقهى بطابعه الأصيل، متعهداً بالحفاظ على روح المكان التي استقطبت الكتّاب والمثقفين لعقود. ورغم الألم الذي عاناه، أطلق على المقهى اسماً جديداً يعكس تضحيات عائلته "مقهى شهداء الشابندر". وبقيت فيه رموز الماضي حاضرة، مثل الأباريق النحاسية القديمة، والسماور، والأثاث الجلدي والخشبي، كجزء من تراثه العريق.
في إحدى المقابلات معه، قال الخشالي بحسرة: "أعتبر حياتي انتهت في 2007 مع انفجار المتنبي، فقدت أربعة من أبنائي وحفيدي. ومنذ ذلك الحين وأنا أعيش فقدانهم". ويضيف: "بعدها، زوجتي أيضاً مرضت وتوفيت نتيجة الحزن الكبير الذي حملته بعد فقدانهم".
كان المقهى بمثابة أن يكون للقادمين من خارج الحدود، شاهداً على الكوارث والأزمات، ومحاولات العيش رغم ذلك.
الأجيال في مكان واحد
"كان هادئاً ووديعاً، محباً للجميع، ويرفض في البدء أخذ المال، يحب الشباب والجيل الجديد، ويبتهج برؤية نقاشاتهم في مكانه الذي لا يبرحه. إنه جار الزمن الجميل الذي يتهاوى شيئاً فشيئاً، لكن عزاؤنا أنه وأخيراً سيلتقي بأولاده الذين يراقبهم ويلقي عليهم السلام كل يوم عند دخوله المقهى".
يقول أحمد عبد الرحمن، وهو طالب فنون، إن دخوله مقهى الشابندر يبدو كرحلة عبر الزمن، نحو الماضي الذي يختصر المدينة حتى بروائحها. رائحة الشاي بالليمون الساخن والدخان المتصاعد من أنابيب الشيشة تستقبل الزوار في مقهى الشابندر، لتحتضنهم بإحساس أنهم في قلب المكان الذي يجسد شكل العاصمة.
من المثير للأهتمام ان هذا المكان ورغم الانقاسمات الدينية والسياسية التي مرت على العراق مثل حبل مشنقة، إلا أنه كان هادئاً، يستقبل كل النقاشات الفكرية المختلفة بدون ضجيج، فيبدو وكأنك كنت وسط جبهة تكاد تعمي روحك بروائح الحروب، وما أن تدخل المكان حتى يتغير الطقس وتعود إلى عراق تتمناه وتريده.
"كان هذا العراق، هو الذي أصر على أن يكون موجوداً طوال سنوات الصراع صاحب المقهى الحاج محمد. يقول لي والدي إن العراقيين وفي بداية الحصار، كانوا يلجأون للمقهى من أجل الانتعاش والشعور بالسعادة وإن كانت مؤقتة، أعود بعد جيل وأكثر، للبحث عن تلك السعادة نفسها في نفس المكان" يقول أحمد.
في هذا المقهى، لا يُقدّم سوى الشاي البغدادي بالليمون المخمر والشيشة، مما يجعل المكان فسحة نقية للحديث والنقاش. هنا يُمارس عشاق الأدب والثقافة طقوسهم الخاصة وكأنهم في معابد روحية، يُقدسون فيها المعرفة والكلمة الحرة. الجدران تزينها صور البلاد المختلفة والملك فيصل الثاني إلى جانب رموز آخرين من السياسة، يمكنك ببساطة أن تجد عدوان في السياسة، متجاوران في المكان بصورة وضعها الخشالي. كان يعتقد أن كل تلك الصور وكل هذه الوجوه هي جزء من تركيب العراق.
أوضح الخشالي في أحد الحوارات معه "يجلس رواد مقهى الشابندر حول طاولاتهم، تتناثر أمامهم أكواب الشاي، في قلب منطقة المكتبات التاريخية ببغداد. وكأنهم يعيشون فصولاً من تاريخ العراق المضطرب، يشاهدون عبر الأحاديث والصور عشرات الأعوام تمر أمامهم، بين صخب الحاضر وأطياف الماضي. البعض منهم يبدأ يومه هنا منذ التاسعة صباحاً، مستغرقاً في أحاديث الثقافة والفكر حتى الثانية أو الثالثة عصراً، في مكان يحتفظ بروحه رغم كل التحولات".
الأثر الباقي
"لم يكن الراحل (الخشالي) بالنسبة للصحافي علي السومري، صاحب مقهى مشهور في شارع المتنبي فحسب، بل كان معلماً دربهم -كما يوضح للجبال- على كيفية مواجهة الفقد بالحياة، وهو ما جسّده بعد فقدانه لأربعة أبناء استشهدوا في العمل الإرهابي الذي طال شارع الكتب الأبرز في بغداد، إذ عاد الراحل وبقوة واصرار لمزاولة عمله اليومي، وجلوسه المعتاد على مقعده وهو يواجه يومياً صور الأبناء المعلقة على الحائط أمامه".
يقول السومري: "لا أنسى مواقفه الشخصية معي أثناء فترة إخراجي لبرنامج (شارع الثقافة) في شبكة الإعلام العراقي، إذ كان يسمح لي دائماً بالتصوير داخل المقهى وما أن أنتهي وقبل شكري له يبادرني بعبارة مع ابتسامة (عاد اشربوا چاي)"، ويضيف السومري "لا أعتقد بأن الراحل سينسى، فهو قرين مقهاه (الشابندر)، وسنراه كلما مررنا بها أو جلسنا لارتشاف الشاي هناك. سيبقى أثره واضحاً في المقهى وسنعتبره موجوداً دائماً".